"يأمل أعداؤنا، كما حصل في الصومال وبيروت، أن نجمع أمتعتنا ونعود الى الديار. إنهم يحاولون اختبار إرادتنا وإرادة الشعب العراقي والعالم المتحضر، وعبثاً يحاولون. إننا بحاجة الى الوسائل الضرورية وكل الامكانات اللازمة لإيصال الرسالة الى العالم - وبالأخص الى أعدائنا - وهي أننا نمتلك العزم الكافي للمضي قدماً وانهاء ما بدأناه". هكذا تكلم بول وولفوفيتز، مساعد وزير الخارجية الأميركي أمام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس الأميركي، وهو أحد أشرس المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، محاولاً التوفيق بين سياسة الرئيس الأميركي والمبادئ الأميركية. لم يكن المحافظون الجدد الأميركيون، الذي بدأوا منذ سنوات عدة التخطيط للحرب على العراق، يعلمون انهم سيواجهون ما يواجهونه اليوم. فرسموا على خرائطهم خطة أشبه ما تكون بالكاريكاتور، وهذا ما تبينوه لاحقاً، وعلى حسابهم: هجوم ضخم بكل الوسائل الحديثة، معركة رهيبة وقصيرة، سقوط نظام صدام حسين، استقبال العراقيين لهم بحفاوة كبيرة، ثم ديموقراطية مثالية في بغداد تكون قدوة لبقية دول المنطقة. لكن ما حصل على الأرض لاحقاً أخذ جماعة دونالد رامسفيلد وفريقه على حين غرة، على رغم الحملة الشرسة التي قاموا بها في وسائل الاعلام لإظهار "خطر" العراق "المؤكد" على الولاياتالمتحدة والعالم. ما دفع كثيرين من محازبيهم الجمهوريين، ومن بعض رجال جورج بوش الأب الى نعتهم ب"البسطاء"، "الراكضين كالعميان خلف مبادئهم البائدة". في خضم المعارك الداخلية التي خاضها هؤلاء للوصول الى أهدافهم، ثمة معركة شرسة بدأت آثارها تظهر جلياً اليوم، وهي التي قامت منذ البدء بين صقور الإدارة ورجال الاستخبارات الذي انتفضوا اليوم رافضين ان يكونوا كبش المحرقة في معركة لم يريدوا يوماً ان تجري على هذا الشكل. فإنهاء ما بدأه الأميركيون في العراق - والجميع يعلم ما جرى في كواليس البيت الأبيض من تضخيم وتضليل باتا مؤكدين - كما يتمنى وولفوفيتز، ليس بالسهولة التي صوروها للرأي العام. إذ يتبين اليوم ان التوصل الى هذا الهدف أمر صعب وطويل الأمد ومكلف، وهذا ما ظهر أخيراً بعد موافقة الكونغرس على تخصيص بلايين الدولارات الإضافية التي طلبها الرئيس جورج بوش للعراق وأفغانستان، منها 55 بليوناً لإعادة اعمار العراق وحده، ما أوجد أعداء داخليين من الجمهوريين أنفسهم، ناهيك بالديموقراطيين الذين وجدوا في ذلك حجة للقيام بهجوم عنيف ضد سياسة الإدارة الحالية. وراء ذلك كله، هناك معركة شرسة تجرى في الكواليس تسبب بها المتلاعبون بالمعلومات أو من سُمِّيوا "سْبين دوكتورز" في إدارتي جورج بوش وحليفه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في مواجهة أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية، تدور خصوصاً حول ملف الأسلحة العراقية. وعلى رغم ان مثل هذه الخلافات تبقى عادة ضمن "أهل البيت"، إلا أنها ظهرت بقوة الى العلن، بسبب ضخامة الملفات المتلاعب بها والتي وضعت صدقية هذه الأجهزة، المعروفة بفاعليتها، على المحك. ويعلم الجميع ان جورج تينيت، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي اي ايه، لم يتورع عن الاعتراف بأن وكالته لم تكن متأكدة مطلقاً، قبل قيام الرئيس بوش بإعلان هذه الحجة، على الملأ، من أن بغداد حاولت الطلب من النيجر امدادها بالمواد الأولية الضرورية لصنع أسلحتها النووية. أما في بريطانيا فاستمعت لجنة التحقيق التي يترأسها القاضي هوتون، الى عملاء في أجهزة الاستخبارات البريطانية تجرأوا على رفض اتهامهم بأنهم قاموا باستنتاجات تؤكد ان العراق قادر على استعمال أسلحة كيماوية وبيولوجية بعد 45 دقيقة من نشرها على أرض المعركة، وتبين لاحقاً ان هذا الادعاء كان كاذباً، بحسب ما أظهره الواقع وفرق التفتيش الأميركية على الأرض. إن عالم الاستخبارات عالم منغلق تماماً، وليس من الشائع في البلدان الديموقراطية ان تقوم أجهزة الاستخبارات بتكذيب علني لأمور كان صانعو القرار، في أعلى الإدارة، قد نسبوها اليهم. ذلك ان من عادة رجال الظل هؤلاء التزام الصمت في كل الحالات. لكنهم هذه المرة قرروا، على ما يبدو، الخروج عن صمتهم بعدما رأوا ان هناك من يبرع أكثر منهم في التلاعب بالمعلومات. وبلغ الخروج عن المألوف في هذا الموضوع ذروته مع قضية عميلة ال"سي آي أيه." التي جرى تسريب اسمها عمداً الى وسائل الاعلام من مسؤولين في البيت الأبيض بهدف الانتقام من زوجها السفير السابق الذي كان أكد سابقاً عدم حيازة العراق أسلحة دمار شامل، بحسب المعلومات التي كان جمعها. إن السؤال المركزي في هذا الموضوع هو: هل من حق جهاز استخبارات معين مراقبة حسن استعمال المعلومات التي جمعها، من الإدارة التي أوكلت إليه هذه المهمة؟ وهل يمكنه بالتالي، القيام بذلك من دون إثارة فضيحة كالتي أثيرت وما زالت آثارها تتفاعل حتى الآن؟ أي هل يمكن أن تكون المعلومات التي يجمعها جهاز استخبارات ما، ثم يحللها ويسجلها، ثم يرسلها الى رأس الهرم، ملكاً له؟ وهل يمكنه الاعتراض على تحويرها وقولبتها وتشويهها خلال مرورها عبر الهرمية التراتبية قبل وصولها الى صانعي القرار؟ ان الاجابة على هذا السؤال صعبة ومعقدة، كالخوض في غمار هذا الموضوع المعقد والخطير. خصوصاً إذا سلمنا أن ما يصدر عن جهاز معين ويكون أصلاً أساس مهمته بل أساس مسؤوليته، سيشكل لاحقاً قراراً أو عملاً معيناً مرتبطاً بشكل وثيق بسيادة الدولة وأمنها الأساسي، ترتكز اليه قرارات لاحقة قد تكون بخطورة عمل عسكري، كالحرب على العراق. إن رجال الاستخبارات هم، لا شك، خبراء في مجال عملهم، تقوم مهمتهم على الحصول على معلومات خام جديدة، على أكبر قدر ممكن من الصحة والدقة والتفصيل، من بين تلك التي يحاول "الآخرون" إخفاءها عنهم. ومن النادر جداً ان تصل هذه المعلومات الى رأس الهرم بهذا الشكل. أي أنها في النهاية معلومات دُرست وحُقق فيها مرات عدة، ثم أعيد تشكيلها وتحريرها بوجه جديد، لتصل الى هدفها النهائي عبر عملية قولبة منظمة، لإرضاء رأس الهرم أو لتتوافق مع أهدافه، أو لدفعه الى استعمالها بحسب ما خطط له من قام بهذه العمليات، وهم عادة وسطاء متعددون، في مقدمهم "حاشية" الرأس الأول الذي يمتلك القرار. فبين المُرسِل والمُرسَل إليه، "تُعترض" المعلومة عبر محطات عدة تتفق في ما بينها لتسهيل عمل الأخير مبدئياً، وهي محطات تعمل كخلية النحل، وتتناقل المعلومة بحسب اختصاصاتها، فيحصل تباعد واضح بين النص الأساسي والنص "المنقّح" ليتحول الأخير الى ما يشبه "إدارة" سياسية لملف معين. يؤكد العارفون بعالم الاستخبارات ان من النادر ان يتوصل رئيس دولة ما الى استشفاف حقيقة ما يحتويه النص المرسل اليه من أجهزة الاستخبارات. ذلك انه، ومن خلال عملية "الهضم" المتواصلة التي يقوم بها مساعدوه الذين يتقنون عملهم جيداً، قد يحصل هذا الرئيس على ما يشبه "الكاريكاتور"، أي على تقويم سياسي للمعلومة، فيصبح النص بين يديه، بالتالي، واقعاً سياسياً لا محالة. إن الذي حصل في واشنطنولندن، بخصوص أسلحة الدمار الشامل العراقية، هو بالتمام تطبيق مكثف لعمليات "التنقيح" والتلاعب هذه. إذ بقيت الأجهزة، بعدما أوصلت المعلومات التي جمعتها، خارج لعبة العلاقات بين الوقائع ومتطلبات الساعة، وخارج عملية استثمارها التي بررت القرار السياسي. إنها لعبة المخاطرة التي تندرج ضمن تبعات التقويم النوعي للمعلومات، والتي تتلاءم مع تطلعات السياسيين وإرادتهم في إعادة صوغها لتتطابق تماماً مع تأكيداتهم النظرية حول قضية ما. إن الخطأ الذي وقعت فيه أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية هو انها استيقظت متأخرة للاعتراض على "الاستثمار المتذاكي والماكر" - بحسب رأي أحد موظفي الاستخبارات - للمعلومات التي هي نتيجة عملهم الشاق، الذي قامت به الإدارتان في واشنطن كما في لندن. ذلك ان تينيت لم يكن مضطراً للظهور مبدئياً الى جانب كولن باول خلال تقديم الأخير الملف العراقي "المنقّح" في الأممالمتحدة، وهو، أي تينيت، الذي تفرض عليه طبيعة عمله التزام الصمت في كل الحالات. وكذلك بالنسبة إلى جون سكارلِت، رئيس لجنة الاستخبارات البريطانية، أي مدير الاستخبارات البريطانية مجتمعة، الذي أعطى موافقته علناً ومن دون أي تحفظ ومن دون ان يرغمه أحد على ذلك، على تحرير النص - الفضيحة الذي قدمه رئيس الوزراء بلير. من الأرجح ان هذا الخطأ الجسيم، المثقل بالعواقب الوخيمة، ناتج من المنافسة الحادة التي قامت بين الأجهزة البريطانية والأميركية، في سباق بين من يكون الأول في اعلان "خطر" العراق على العالم بحسب المعلومات التي جمعها. فالتكهنات المفتوحة على الخيال، والمتوافرة والمتنوعة بشكل كبير على لسان السياسيين وفي وسائل الاعلام، هي ما يطلبه صانعو القرار لأنها تقدم معلومات عن وضع ما، ولو مغلوطة، أشمل وأسرع من معلومات رجال الظل التي هي عادة أصح وأدق. مع فارق كبير في ملف العراق، وهو ان بوش وبلير كانا على علم مسبق، كما تبين لاحقاً، بقسم كبير من عملية التلاعب بالمعلومات، التي قام بها معاونوهم ومستشاروهم الأوفياء، وبقوا على مواقفهم المتشددة، على رغم سقوط المعاونين في بريطانيا، وارتفاع الأصوات المعترضة في الولاياتالمتحدة. إن الأهداف من وراء كل ذلك واضحة عند الجميع. ذلك ان إدارة الرئيس بوش وقعت في أخطاء تكتيكية واستراتيجية كثيرة قبل احتلال العراق وخلاله وبعده، فالفارق بين ما يحدث في العراق وما حصل في ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية، على رغم ان المقارنة بين الحدثين تبدو غير ملائمة تماماً، هو ان احلال نظام ديموقراطي في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية تطلّب سنوات عدة من الاحتلال والمحاولات الشاقة، بينما تعد إدارة الرئيس بوش بإحلال الديموقراطية في العراق قريباً جداً. ولم يصبح الأميركيون مقبولين في ألمانيا الغربية ولم ترتفع شعبيتهم إلا بعد الجسر الجوي الذي مدّوه بين أميركا وبرلين لكسر الحصار الستاليني للمدينة. وقد بقيت ذكرى 8 أيار مايو 1945، لدى غالبية الألمان الغربيين ولعقود عدة، مرادفة للاحتلال أكثر منها للتحرير. من هذه الناحية يشكل العراق اليوم التحدي الأول لفترة ما بعد الحرب الباردة كما شكلت برلين سابقاً ساحة القتال الأولى للحرب نفسها، بحسب رأي المحافظين الجدد. فما يجرى في العراق اليوم، يتابع هؤلاء، يتعدى مصير البلاد ليصل الى صورة الولاياتالمتحدة في العالم العربي وقدرتها على نشر قيم الديموقراطية. وكما حصل لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فإن مثل هذا التحدي يتطلب مثابرة وصدقية ووسائل وتضحيات. لكن الرئيس بوش لن يكون، حتى ولو حاول رسم صورته على هذا الشكل، الوريث الروحي للرئيس ترومان. ويأتي في مقدم المشككين بذلك الليبراليون أنفسهم! وكما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" التي كانت مناوئة للحرب، فإن بوش كان وما زال غير قادر على اتباع سياسة شجاعة تلزمه القيام بتضحيات قد تضعف شعبيته لدى الأميركيين. كما ان محللي الصحيفة ذاتها يعتقدون بأن السياسة الخارجية للإدارة الحالية تعكس ميلاً الى البحث عن مكاسب سريعة من دون النظر بعيداً الى الأمام. من هنا كانت نظرة الاستخبارات الى الوضع أصعب بكثير من نظرة السياسيين التي بدأت تظهر شوائبها منذ أسابيع. ومن هنا كانت هذه الانتفاضة العلنية، والأولى من نوعها، التي قامت بها أجهزة الاستخبارات في وجه صانعي القرار الذين شوّهوا صورتها في صلب عملها. فالفارق بين معاهد الدراسات الخاصة أو وسائل الاعلام التي لا تملك الوقت الكافي لدرس معلوماتها من جهة وبين أجهزة الاستخبارات من جهة ثانية هو ان على الأخيرة التحقق جدياً من معلوماتها. وهذا ما قامت به، لأنه مبرر وجودها، لكنها غُدرت ضمن مجال عملها. كما انها، وخلال عشر سنوات متتالية، وجدت في مواجهتها خصماً عنيداً هو فريق مفتشي الأممالمتحدة، الذين قاموا بعملهم على أكمل وجه. وتبين لاحقاً ان عملهم كان أكثر حذراً وأكثر مثابرة وأكثر واقعية من عمل "بصّاري" الاستخبارات، وجاءت النتيجة على الأرض لتؤكد ذلك، وهذا ما بينته نتائج التحقيق الذي يقوم به فريق التفتيش الأميركي، وهذا ما أكده سابقاً هانس بليكس رئيس المفتشين السابق، ثم عاود أكده وشدد عليه مجدداً قبل أيام