من قصيدة الطفولة إلى تسعة دواوين شعرية بين الفصحى والحداثة.. دفاع عن اللغة وجمالياتها في زمنٍ تتداخل فيه الأصوات وتتصارع فيه النصوص بين الرواية والمقالة والسرديات الحديثة، تظل القصيدة عند الشاعرة الدكتورة مها العتيبي مساحة مفتوحة للدهشة، ونافذة مشرعة على الأمل والإنسانية. تؤمن مها بأن الشعر لا يُكتب بدافع مباشر ولا نتيجة حدث طارئ، بل هو حصيلة تراكمات وجدانية ومعرفية تتشكل عبر الزمن لتولد القصيدة لحظة نضجها. ومن هنا، جاءت تجربتها الشعرية امتدادا لرحلة إنسانية قبل أن تكون مجرد إنتاج أدبي. نشأت مها في بيئة أسرية تحب القراءة وتقدّر الشعر، فكان بيتها أول مدرسة ألهمتها ودفعها للإبداع. تحكي أنها كتبت أولى محاولاتها وهي طفلة صغيرة لم تتجاوز المرحلة الابتدائية، وأن قصيدتها الأولى "وصف المطر" كانت بوابة الدخول إلى عوالم الشعر. ومع مرور السنوات، وجدت نفسها أكثر التصاقا بالكلمة، فبدأت تنشر قصائدها في ملحق عكاظ الثقافي أثناء دراستها الجامعية، وكانت المفاجأة أن تُنشر النصوص كما هي، دون تعديل. ذلك القبول المبكر منحها الثقة لتدرك أن ما تكتبه ليس عاطفة عابرة، بل بداية طريق طويل. ديوان أول.. بطاقة تعريف عام 2009 أصدرت مها ديوانها الأول "نقوش على مرايا الذاكرة"، الذي ضم قصائد كتبتها بين 2006 و2008. كان هذا الديوان بمثابة بطاقة تعريف في المشهد الثقافي السعودي، وأول إعلان رسمي عن اسم شعري قادم. اعتمدت فيه على لغة شفافة وصور شعرية توازن بين الإيقاع والمجاز، لتفتح لها الطريق نحو القراء والنقاد على السواء. ومنذ ذلك الحين، تتابعت دواوينها لتصل اليوم إلى تسعة إصدارات، من بينها "لوعة الطين"، "تشرين والحب والأغنيات"، "مقام"، "رهيد"، "شغف"، وغيرها. بين الأصالة والحداثة تتمسك العتيبي بالقصيدة العمودية وقوانين الوزن والقافية، لكنها لا تراها قيدا يمنعها من التجديد. كتبت قصائد التفعيلة، واقتربت في بعض أعمالها من قصيدة النثر، معتبرة أن اللحظة الشعرية هي التي تحدد شكل القصيدة وإيقاعها. تقول: "المطلع الأول الذي يُسكب على الورق هو الذي يرسم ملامح القصيدة، ويحدد مزاجها ومسارها". لذلك، يمكن أن تكون بعض نصوصها مشبوبة بالحماسة وإيقاعها سريع، بينما تميل أخرى إلى الهدوء والرومانسية. موقف واضح من اللغة المحكية ترفض مها إدخال اللغة المحكية في الأعمال الأدبية على حساب الفصحى، معتبرة أن ذلك يضعف الذائقة الجمالية ويبعد الناشئة عن اللغة الأم. تقول: "الفصحى ليست مجرد أداة للتعبير، بل هي هوية وذاكرة وانتماء، وهي ما يمنح النص قيمته الفنية والإنسانية". هذا الموقف، رغم أنه يضعها أحيانا في مواجهة مع تيارات أدبية ترى في العامية أداة للتجديد، إلا أنه يعكس التزامها العميق بحماية اللغة كوعاء للحضارة. الشعر والإنسانية ترى العتيبي أن الشعر هو صوت الإنسانية في مواجهة الحروب والدمار. مهما كان السواد، تظل القصيدة قادرة على إشعال بصيص نور، وتوسيع مساحة الحب، وخلق نوافذ للمودة. لذلك، فهي تكتب عن قضايا كبرى كالحرية، الهوية، الوطن، والمرأة. وتؤكد أن الشعر بالنسبة لها ليس وسيلة للوعظ أو التوجيه المباشر، بل نافذة على المعنى العميق للحياة. المرأة في قصائدها تحضر المرأة في نصوص مها العتيبي ليس كرمز تقليدي أو صورة نمطية، بل كصوت فاعل ومفكر. تقول: "أسعى لأن أظهر المرأة بوصفها شريكا أساسيا في صناعة الوعي، وأن أعيد صياغة خطابها الشعري". في دواوينها نجد المرأة قوية، حالمة، قادرة على تغيير مسار حياتها، وفي الوقت ذاته مليئة بالعاطفة والرهافة الإنسانية. بين الشعر والرواية رغم هيمنة الرواية في المشهد الأدبي العربي، تظل مها مقتنعة بأن الشعر هو "ملك الفنون"، وتؤكد أنها لا تسعى لكتابة الرواية إلا إذا وجدت نفسها حقا فيها. ومع ذلك، خاضت تجربة مميزة في أدب اليافعين من خلال روايتها "رحلة الفتى مالك"، التي أرادت من خلالها أن تُظهر رحلة البحث عن الأمنيات باعتبارها رحلة لاكتشاف الذات. الرواية لاقت صدى واسعا عند صدورها، وأكدت أن الكتابة للشباب تحتاج وعيا خاصا بلغة تناسبهم وتلهمهم. علاقة مع النقاد والجمهور تتعامل العتيبي مع النقد بوعي وانفتاح، وتعتبره نافذة تُضيء على النص. لكنها ترى أن الشعر غالبا ما يتعرض لتجاهل النقاد مقارنةً بالرواية والسيرة الذاتية. تفسر ذلك بقولها إن بعض النقاد يخشون مقاربة الشعر لافتقارهم إلى الأدوات البلاغية والمعرفية اللازمة، فيفضلون الاتجاه إلى أجناس أخرى. ومع ذلك، تؤمن أن النقد البنّاء يضيف للنص ويكشف آفاقا جديدة للكاتب. أما علاقتها بالجمهور، فقد غيّرتها وسائل التواصل الاجتماعي، حيث باتت مباشرة وفورية. تقول: "هذا جميل لأنه يختصر المسافة، لكنه أيضا يضع الكاتب أمام مسؤولية كبيرة، وهي أن يكون على وعي دائم بأثر ما يكتب في فضاء عام مليء بالتفاعل. الجوائز والاعتراف عام 2021، فازت الدكتورة مها العتيبي بجائزة الشارقة لإبداعات المرأة الخليجية عن ديوانها "أشدد بكفك أحلامي فقد أصل". الجائزة لم تكن مجرد تكريم، بل إقرار بخصوصية صوتها وقدرتها على الموازنة بين التراث والحداثة. وهي ترى أن ما يميز تجربتها هو صدق اللغة والقدرة على المزج بين الأصالة والتجديد. الأدب السعودي نحو العالمية ترى العتيبي أن الأدب السعودي يعيش مرحلة ذهبية، وأن العقد القادم سيشهد مزيدا من الحضور العالمي عبر الترجمة والانفتاح على الثقافات الأخرى. تقول: "الأصوات الشابة اليوم أكثر جرأة في طرح قضايا المجتمع وأكثر انفتاحا على التجارب الإنسانية المشتركة، وهذا يمنح الأدب السعودي تنوعا وقدرة على الوصول إلى أبعد مدى. خلف القصيدة.. لا طقوس ولا قيود لا تؤمن مها بالطقوس الخاصة في الكتابة؛ ليس لديها وقت محدد أو مكان ثابت، بل تكتب عندما تحضر اللحظة الشعرية. تؤكد أن المطلع هو ما يحدد شكل النص وإيقاعه، وأن القصيدة أحيانا تفرض نفسها على الشاعر، فتقوده لا العكس. بالنسبة لها، الشعر أشبه بمياه نبع تفور فجأة، وعلى الشاعر أن يكون حاضرا ليلتقطها. بين المعلقات ودرويش ثقافة مها الشعرية واسعة. بدأت بقراءة المعلقات، فتأثرت بصور امرئ القيس ورومانسية عنترة وجرأة عمرو بن كلثوم. ثم انتقلت إلى السياب بدفقه العاطفي، والجواهري بلغته الرصينة، ودرويش برموزه وإيقاعاته المميزة. كل هذه القراءات صنعت مزيجا خاصا في تجربتها، جعلها غير منتمية إلى مدرسة بعينها، بل إلى فضاء مفتوح تتقاطع فيه المؤثرات. الشعر في زمن السرعة حين تُسأل عن عزوف الشباب عن الشعر، تجيب بصدق: إن ضعف التلقي، وقلة القراءة، وتسارع الحياة، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي كلها عوامل تفسر ذلك. لكن السبب الأعمق هو غياب الممارسة المتصلة للشعر؛ فلا منصات جاذبة، ولا أمسيات قادرة على خلق علاقة جديدة بين الأجيال والقصيدة. لذلك، تضع مسؤولية على المؤسسات الثقافية لإعادة الاعتبار للشعر في وجدان الشباب. ما وراء الكلمات لا تبحث مها عن إعجاب عابر، بل عن أثر حقيقي يتركه النص في القارئ. تقتبس قول جان كوكتو: "الشاعر لا يطلب الإعجاب أبدا، بل يود أن يصدقه الآخرون". وهي ترى أن الشاعر حين يصدق، يبكي ويُبكي ويدهش، وحينها يأتي الإعجاب تلقائيا، لا طلبا. صوت أنثوي متفرّد في النهاية، تمثل مها العتيبي صوتا نسائيا سعوديا متفرّدا، يمزج بين رهافة الإحساس وقوة الانتماء. كتبت للمرأة وللوطن وللحب وللحرية، وفي كل مرة كانت تبحث عن المعنى الأعمق خلف الكلمات. إنها تؤمن بأن الشعر ليس مجرد فن بل أسلوب حياة، وأنه قادر على أن يكون مساحة للإنسان كي يستعيد صوته وسط ضجيج العالم.