طوت سوريا، أول من أمس، صفحة العقوبات الأمريكية المرتبطة بقانون قيصر، بعد توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2026، الذي تضمن بندا لإلغاء العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر. تمثل هذه الخطوة نقطة تحول تاريخية تعكس تغيرا ملموسا في البيئة الدولية والإقليمية المحيطة بسوريا. في فيديو من جبل قاسيون المطل على دمشق، شكر الرئيس السوري أحمد الشرع الدول التي أسهمت في إقناع ترمب بإلغاء القانون، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا، كما عمّت الاحتفالات أرجاء البلاد منذ تصويت الكونجرس لصالح القرار قبل نحو أسبوعين. لكن هذه الفرحة برفع العقوبات تقابلها تساؤلات عن وضع البلاد والشعب في اليوم التالي لإلغاء قيصر؟ وما إذا كانت القيادة السورية أعدت إستراتيجية للفترة المقبلة تخرج البلاد والعباد من الحال المغرق في الصعوبة. حتى الآن لا شيء معلنا، مع أن أوساطا مطلعة تؤكد أن عملا يجري على مستوى بعض الجهات الحكومية، لكن من دون تكامل وتناغم على مستوى منظومة الحكومة، ما يعكس حاجة عاجلة لوضع رؤية وطنية شاملة ومحددة زمنيا بمشاركة خبراء من جميع القطاعات لتحديد موقع سوريا الحالي والأهداف المرجوة وخطة تنفيذها. وكنت أشرت سابقا إلى أهمية أن تبادر الحكومة إلى إطلاق إستراتيجية وطنية تحدد أين تقف سوريا اليوم، وإلى أين يجب أن تصل، وكيف تحقق ذلك. في الجانب الإيجابي، نجد أن قانون قيصر الذي أُقر عام 2019 شلّ النظام البائد وقيّد أنشطته وعلاقاته مع العالم، ما يجعل إلغاء القانون يفتح فرصا كبيرة أمام سوريا الجديدة، منها عودة سوريا إلى النظام المالي العالمي تدريجيا ما يسمح بفتح قنوات التحويلات البنكية والمراسلات المصرفية واستعادة البنك المركزي قدرته على إدارة السيولة وتقليص الفجوة السعرية وتقليل الاعتماد على السوق السوداء، وجذب الاستثمارات العربية والأجنبية، وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار، وتحسن سعر صرف الليرة السورية وتخفيف الضغوط المعيشية على المواطنين، وعودة الشركات الدولية والإقليمية للعمل داخل سوريا. كما يسهم إلغاء قانون قيصر في تحسن الاستيراد وتوفر المواد الأساسية وانخفاض الكلفة، وتعزيز الانفتاح السياسي والدبلوماسي، وخلق فرص عمل واسعة، وتقوية موقع الدولة السورية التفاوضي إقليميا، وإعادة دمج سوريا في الاقتصاد الإقليمي والعالمي. كما أظهرت المبادرات المجتمعية تماسكا لافتا في الأوساط المحلية وقدرتها على دعم الخدمات الأساسية، في مؤشر مهم على أن التعافي لا يقتصر على قرارات الدولة وحدها، بل يستند أيضا إلى مجتمع قادر على المشاركة في إعادة البناء. ومما يبعث على التفاؤل أن سوريا اجتذبت استثمارات تناهز قيمتها 28 مليار دولار منذ التحرير وفقا لتصريحات الشرع خلال مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار الذي عقد في الرياض أكتوبر الماضي. لكن رفع العقوبات لا يعني تحسنا فوريا ينعكس أثره بسرعة على الشعب، إذ يشير النائب الأول لحاكم مصرف سوريا المركزي الدكتور مخلص الناظر في منشور على منصة X إلى أن رفع العقوبات لا يعني تدفقات فورية لرؤوس الأموال ولا تحسنا تلقائيا في سعر الصرف أو عودة فورية للثقة الدولية التي لا تُرفع بقرار بل تبنى بإصلاح مؤسسي. لا شك أن سوريا كي تنطلق بقوة تحتاج إلى إيجاد حلول لتحديات جوهرية، منها استباب الأمن وترسيخ السلم الأهلي وتثبيت الاستقرار ومحاربة تنظيم داعش الإرهابي وفلول النظام البائد بعدما هرب الطاغية الأسد إلى موسكو وترك زبانيته يواجهون مصيرهم فحمل بعضهم السلاح ونفذوا عمليات إرهابية وعمد آخرون إلى تهريب الأسلحة وما بقي من مخدرات نظام المخلوع إلى خارج البلاد. كما تبرز التحديات المتعلقة بتوحيد البلاد بشكل كامل تحت قيادة واحدة، خصوصا في شمال شرق سوريا حيث ترفض قوات سوريا الديموقراطية (قسد) حتى الآن تنفيذ اتفاق مارس 2025 الذي يضمن دمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية وحقول النفط والغاز. ويمثل الاحتلال الإسرائيلي تحديا لسوريا الجديدة، إذ لا يزال ينفذ اعتداءات على الأراضي السورية خصوصا في القنيطرة ودرعا وريف دمشق، ويدعم ميليشيات مسلحة متورطة في جرائم بحق قوات الأمن وسكان محليين في السويداء. وتجد الحكومة الجديدة نفسها أمام الإرث الثقيل للاقتصاد المنهك، بعد أن أورثنا نظام الأسد واحدا من أسوأ الأنظمة في مجال الإدارة الحكومية، ما جعل الفساد الإداري والمالي ينخر جسد الدولة. وتشكل البنية التحتية المتهالكة والتأخر الرقمي تحديا كبيرا أمام سوريا، وتحتاج استثمارات ضخمة وزمنا طويلا لإعادة تأهيلها. وتتزايد يوما بعد آخر المطالبات الشعبية بأن تشمل العدالة الانتقالية جميع رموز النظام البائد والمتورطين في دماء السوريين، إذ إن أي تأجيل أو تراخٍ في هذا الملف لا يهدد مسار العدالة فحسب، بل ينذر بتفجير أزمات داخلية تمسّ الأمن والاستقرار بشكل مباشر. كما طبع النظام البائد سوريا بطابع متخلف على مستوى الحوكمة والضمانات مع غياب إطار قانوني استثماري شفاف وجاذب، ما عرقل تدفق استثمارات دولية وأدى إلى هروب المستثمرين وضعف الثقة المحلية والدولية والمؤسسية التي تحتاج القيادة الجديدة إلى إعادة بنائها من جديد وفق أفضل الممارسات العالمية. ولا تزال سوريا تواجه عقوبات أخرى أمريكية وأوروبية غير مرتبطة بقانون قيصر، ومنها الإدراج على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ عام 1979 وقانون محاسبة سوريا وسيادة لبنان عام 2003، ورغم أن تأثيرها ليس كتأثير قانون قيصر لكنها تبقى حجرا في الطريق. إلغاء قانون قيصر يفتح أمام سوريا أبوابا غير مسبوقة للنمو الاقتصادي والانفتاح الدبلوماسي، لكنه ليس ضمانة للتعافي، فنجاح المرحلة المقبلة يعتمد على قدرة القيادة السورية على وضع رؤية شاملة، وإصلاح مؤسسات الدولة، وتثبيت الأمن والاستقرار، وإدارة التحديات الداخلية والخارجية بذكاء وإستراتيجية مدروسة. وإذا نجحت دمشق في معالجة هذه التحديات، قد نشهد مرحلة تحول اقتصادي وسياسي غير مسبوقة، تغيّر واقع أكثر من 25 مليون سوري عاشوا سنوات من المعاناة. الرئيس أحمد الشرع كتب على ورقة خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك سبتمبر الماضي «قيصر مفترق طرق»، وها قد اتضح أي طريق سنسلك، ونحتاج حاليا إلى معرفة إلى أين سيوصلنا الطريق الذي بات مفتوحا أمامنا.