القرآن حلٌّ دائم؛ لكننا المشكلة المؤقتة التي لا تريد أن تنقضي؛ نقرأ ولا نسمع، نحفظ ولا نعمل، ثم نبحث عن عزاءٍ في تبريرٍ جديد.. لو كان لقلوبنا ظلٌّ يراه الآخرون.. كم سننكشف؟! ومع ذلك، ما العيب في انكشافٍ يفضح القبح لنتطهّر؟ الحقيقة هي الشيء الوحيد الذي يجب أن يتعرّى أمامنا؛ أمّا نحن فسترنا في صدقنا معها.. قبل أن نُغريَ أنفسنا بالواجهة فلنفتّش عن الصوت الهادئ في الداخل: أيقيسنا المظهر أم يوزننا المبدأ؟ هذه سطورٌ تمضي إلى الجوهر، تستعيد معنى الدين كتهذيبٍ يوميٍّ يقدّم العدل والرحمة والصدق على كل زينةٍ عابرة. الدين بوصلةٌ تعيد ترتيب الداخل قبل الخارج؛ تعلّمك أن الكلمة أمانة، وأن الصمت حين يداوي أصدق من صخبٍ يجرح، تذكّرك أن القوة ليست في الغلبة بل في إنصاف الضعيف، وأن النبل أن تفتح نافذةً للهواء حتى لِمن أغلق عليك الباب، يقيمك على العدل حين تميل، وعلى الرحمة حين تشتد، ويقول لك بلطف: لا تكثر الادّعاء، بل أكثر من الفعل الذي يشهد لك. والدين عادةٌ يوميّة لا موعدا موسميا؛ يتجلّى في التفاصيل الصغيرة بسلامٍ يطمئن القلوب، في نظافة طريق في سترٍ يوقّر الإنسان، وفي كفّ أذى يُنقذ نهارًا من العطب لا يطلب معجزاتٍ بعيدة بل صدق قريب يجعل النية أصلًا والعمل ثمرًا؛ فعملٌ بلا نية وجهة كوميضٍ بلا نار، ونيةٌ بلا عمل وعدٌ بلا أثر. هناك فقط تصير الحياة عبادةً تمشي على مهلٍ وتترك خلفها أثرًا طيبًا. الدين ليس غطاءً مؤقتًا يموّه العيب، بل تربيةٌ رقيقةٌ تصوغ فيك خلقًا يمنع نشأته من الأصل؛ لذلك يختبرنا المعنى كلَّ يوم: أننحازُ إلى الظاهر أم إلى الباطن؟ من عجائب القلب أن تغرس فيه حبًّا فيحاول بعضهم اقتلاعك بكرهٍ زرعوه لأنفسهم؛ لكن الامتحان ليس في ردّ الكراهية؛ الامتحان أن تظلَّ شجرةً تُثمر، لا فأسًا تُجَرِّح. فالمبادئ لا صلة لها بمصالحنا المتقلّبة غيّر أسلوبك إن شئت؛ لكن أثبت على الأصل فالحق حقٌّ ولو جاءك من خصم، والباطل باطلٌ ولو بشارةُ صديقٍ على بابه. نحن أحيانًا نغفل عن جوهر الهداية فننشغل بالقشور؛ حرصوا كما قالوا على "الرزّ البخاري" وتركوا "صحيح البخاري"؛ ذوقٌ يملأ المعدة، ومعنى يهجر الروح. لو عرفنا الميزان لعدلنا بين البرّ والعقوق، هناك أبٌ طلب الحياة لابنه فامتنع الابن، وآخر دعا عليه بالموت فأجاب؛ شتّان بين من يهب الحياة بالرحمة ومن يطفئها بالقسوة، ومع ذلك يظل اللين أعظم شجاعة، فاللين يعجن الغِلظة حتى تصير خبزًا يصلح للناس، هكذا يتهذّب الخصم، وهكذا نتأدب نحن مع الحقيقة. الثري يستطيع أن يعلّق في معصمه أفخم ساعة، لكنه لا يشتري دقيقةً من عمره، الزمن لا يُستورد، واللحظة لا تتكرر. لهذا يغدو أخفّ الناس عقلًا أثقلهم لسانًا؛ يطلب الشهرة بالضجيج لأن الفارغ لا يحتمل صمت الوزن. ومساكين أولئك الذين يطاردون حقيقة أحلامهم في هوامش كتب تفسيرها، بينما الحقيقة تطلّ عليهم من نافذة العمل. الأحلام تتعبك، نعم؛ لكنها نعمة التعب. أن تكون تعيسًا بسبب أحلامك أكرم من أن تكون حالِمًا بسبب تعاستك؛ فالتعاسة حين تتّخذ الحلم مخدّرًا تسرق منك القدرة على الاستيقاظ. القرآن حلٌّ دائم؛ لكننا المشكلة المؤقتة التي لا تريد أن تنقضي؛ نقرأ ولا نسمع؛ نحفظ ولا نعمل؛ ثم نبحث عن عزاءٍ في تبريرٍ جديد.. لو كان لقلوبنا ظلٌّ يراه الآخرون.. كم سننكشف؟! ومع ذلك، ما العيب في انكشافٍ يفضح القبح لنتطهّر؟ الحقيقة هي الشيء الوحيد الذي يجب أن يتعرّى أمامنا؛ أمّا نحن فسترنا في صدقنا معها. الفقر ليس قلةً في اليد، بل قِلّةٌ في الرضا: فقيرٌ من يستقلّ ما لديه ويستكثر ما لدى الناس؛ يطلب المزيد لا لأنه بحاجة بل لأن المرايا حوله تُكبر ما في يد غيره وتصغّر ما في يده. لا تتبع باطلًا لأن من جاء به تحبّه، ولا تردّ حقًّا لأن قائله تكرهه. الميزان لا يعرف وجوهنا بل يعرف أثقالنا. الجنّة تجعل كل ما خسرتَه تافهًا حين ترى العِوَض، والنار تجعل كل ما كسبتَه تافهًا حين ترى الفوات؛ ما قيمة الدنيا إن كانت طريقًا إلى فراغٍ أبدي؟ وما ثِقَل الخسارة إن كانت درجةً على سلّم النجاة؟ إذا لم تستطع أن تكون واقعًا جميلًا في حياة أحدهم فلا تكن كابوسًا يطارد نومه. كن إضافةً خفيفةً على قلوب الناس: كلمةٌ تواسي، صمتٌ يوقِّر، موقفٌ ينقذ. في آخر النهار، ليس المطلوب أن نكسب الجدل؛ المطلوب أن نكسب أنفسنا.. ليس العيب أن نختلف؛ العيب أن نُرخص الحقيقة لنشتري رضا اللحظة. فلنُرتب أولوياتنا فمعنى قبل مظهر، خلق قبل شعار، ثبات قبل صخب. إن كنا نبحث عن الساعة الحقيقية فهي ليست في الذهب المعلّق على المعصم بل في الدقيقة التي نُنفقها على ما يرضي الله ويُعلي الإنسان.. هناك، فقط هناك، يصبح الوقت ثروةً، والكلمة وزنًا، والقلب ظلّا نقيًّا لا يخاف الضوء.