وسط دارفور الملتهبة تقف «مدينة الفاشر»، عاصمة ولاية شمال دارفور، على صفيح ساخن. مدينةٌ حملت عبر قرون إرث السلطنة وذاكرة التاريخ، تحولت اليوم إلى بؤرة نزاع وصراع مفتوح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وبين رهانات إقليمية ودولية تجعلها مسرحاً لأحداث متسارعة. الحصار المفروض عليها منذ أشهر، والجرائم التي ارتكبت بحق سكانها ونازحيها، وضعا الفاشر في قلب المشهد السوداني، حتى باتت توصف بأنها «مفصل الحرب» الذي قد يحدد مسار الصراع في السودان. مدينة ذات إرث تاريخي ترتبط الفاشر بسلطنة دارفور التي حكمت المنطقة لقرون. كانت مقر السلاطين وعاصمة للقرار السياسي، ومركزاً دينياً وثقافياً.وكانت ملتقى طرق التجارة القادمة من غرب إفريقيا والمتجهة نحو وادي النيل. كما ارتبط اسمها بذاكرة دينية خاصة، إذ تذكر بعض المصادر أنها كانت ضمن المدن التي ساهمت في صناعة كسوة الكعبة قديماً. هذا الإرث جعل منها رمزاً وجزءاً أصيلاً من الهوية الدارفورية. تقع الفاشر في موقع استراتيجي يربط شمال دارفور بوسطه وغربه، وتعد عقدة مواصلات للتجارة والرحلات. كما أن قربها من جبل مرة والمناطق الزراعية جعلها مركزاً اقتصادياً رئيسياً. ومع اندلاع الحرب الأخيرة، برزت أهميتها العسكرية؛ فمن يسيطر على الفاشر يمتلك نفوذاً واسعاً في إقليم دارفور، ويتحكم في طرق الإمداد وخطوط الاتصال مع تشاد وليبيا. ولهذا تحولت المدينة إلى هدف استراتيجي رئيسي في الصراع. بداية الحرب خلال العامين الماضيين تصاعدت أعمال العنف في مناطق شتّى من السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع. الفاشر، التي بقيت لزمن طويل علامةً حضرية وثقافية في دارفور، أصبحت منذ مايو 2024 محاصرة إلى حدٍّ كبير من قبل قوات الدعم السريع، وتعرضت لأعمال قصف مدفعي وجوي متقطعة، واستهداف لمخيمات النازحين والأحياء السكنية. السكان الذين لم يتمكنوا من الخروج وصفوا مشاهد قاسية من الجوع والنهب والتفتيشات المذلّة على نقاط التفتيش. تقارير صحفية وشهادات ميدانية أخيرة أكدت استمرار الحصار وتصاعد معاناة المدنيين. لماذا الفاشر مهمة؟ الفاشر مدينة ذات جذور تاريخية على مدى عصورٍ تشكّلت فيها أنماط الحكم، التجارة، والحياة الاجتماعية التي جعلت منها مركزًا إداريًا وثقافيًا. تشتهر المدينة بمعمارها التاريخي، وتطورت المدينة لاحقًا لتصبح مَحورًا للتلاقي بين البعد العربي والأفريقي داخل دارفور. هذه الخلفية التاريخية تمنح الفاشر وزنًا رمزيًا في وعي الناس والهوية الإقليمية. أهمية اقتصادية واجتماعية وجغرافية: تقع الفاشر في موقع يربط بين مناطق جبل مرة، سهول دارفور، ومعابر التبادل التجاري نحو غرب السودان؛ ما يجعلها عقدة لوجستية. ومع وجود مخيمات نزوح كبيرة قربها "مثل مخيم أبو شوك" حول المدينة أعطاها دورًا إنسانيًا مركزيًا منذ موجات النزوح الأولى في أعوام الصراع السابقة. وتعدد الإثنيات والقبائل بها "عناصر عربية وأفريقية وغير ذلك" يجعل منها فسيفساءً اجتماعية غالبًا ما يتقاطع حولها صراع النفوذ والهوية في فترات الأزمة. الأحداث الميدانية منذ تجدد المعارك الشاملة بين الجيش وقوات الدعم السريع، تصاعدت وتيرة العمليات العسكرية في شمال دارفور حول الفاشر. تركزت العملية الأخيرة على محاولات قوات الدعم السريع اقتحام المدينة وفرض حصار خانق عليها منذ مايو 2024، مع تقارير متلاحقة عن قصف مدفعي وصواريخ سقطت في أحياء مكتظة ومناطق تواجد النازحين. شهود نَقلوا قصصًا عن محاولات دفع مقابل المرور من نقاط التفتيش، وعن صعوبة الخروج من المدينة بسبب الطوق والكمائن. وتقول تقارير طبية ومحلية متطابقة أشارت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى نتيجة قصف مواقع سكنية ومخيمات، ففي هجوم واحد قُتل عشرات المدنيين بينهم أطفال ونساء في مخيمات قريبة من الفاشر، وأكدت مجموعات طبية محلية وقوع إصابات واسعة نتيحة القصف المدفعي على مناطق مأهولة. كما لاحظت تقارير وجود حصار أدى إلى ندرة الغذاء والدواء وارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية داخل المدينة. استهداف مخيمات النازحين أصبح استهداف مخيمات النازحين سمة مميزة ومؤلمة للصراع في محيط الفاشر. هجمات متكررة طالت مخيمات مثل أبو شوك، وأسفرت عن مئات الضحايا وتشريد مزيد من الأشخاص الذين فرّوا من عنف سابق داخل الإقليم. جهات دولية ووطنية وثّقت حالات إعدام ميداني، اعتداءات جنسية، ونهب ممنهج، فيما حذّرت من أنّ بعض الأفعال قد ترتقي إلى مستوى جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، خصوصًا عندما تترافق مع سلوكيات منسوبة لقوى مسلحة منظّمة وعمليات تعمد لمنع وصول المساعدات أو استخدام الغذاء كسلاح. تقارير دولية ومحلية، وصور بالأقمار الصناعية والتحقيقات الميدانية خلّفت دلائل تثير مخاوف محققة. الوضع الإنساني كارثة مفتوحة النتيجة المباشرة للحصار والقصف المستمر هي تفاقم الأزمة الإنسانية: نقص غذاء حاد، انهيار خدمات الصحة، انتشار أمراض وبائية، واستنزاف سبل العيش. شهادات قادمة من داخل المدينة تحدّثت عن لجوء الناس لأكل علف الحيوان، وارتفاعات جنونية في أسعار المواد الأساسية، ونقص حاد في الوقود والدواء. وكالات إنسانية دولية (مثل برنامج الأغذية العالمي ومنظمات غير حكومية) رصدت تهديدًا بمجاعة في حال استمرار الحصار ومنع دخول المساعدات. في الوقت نفسه، اضطرت بعض المنظمات الدولية إلى تعليق عملياتها أو خفضها بسبب مخاطر الهجوم والقيود الأمنية، مما عمّق معاناة المدنيين. التجويع يستخدم كأسلوب حرب وفي لقاءات صحفية أجرتها وكالة رويترز العالمية مع مواطنين سودانيين، الهاربين من جحيم الفاشر قالت دار السلام حامد، إحدى الهاربات "الشخص الذين يُحكى له ليس مثل الشخص الحاضر، لكن إحنا عانينا بجد في الفاشر". وعندما قررت هي وعائلتها المغادرة، قالت إنهم تعرضوا للتفتيش الدقيق من جنود قوات الدعم السريع وللسرقة في الطريق. وقالت لرويترز في مخيم بمنطقة الدبة الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني "عانينا من الجماعة دي معاناه حقيقية... سرقونا وشالوا (أخذوا) مني تلفوني وفتشونا تفتيش لا حول ولا قوة إلا بالله منهم... حسبنا الله ونعم الوكيل... لكن الناس دي الله لا يلقانا معاهم (ألا نلقاهم مرة أخرى)". ولم ترد قوات الدعم السريع على طلبات للتعليق. وأدت الحرب المستمرة منذ عامين ونصف بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني إلى ما تصفه الأممالمتحدة بأنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم مع اتساع مناطق المجاعة في السودان لتشمل مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور. وأصبحت المدينة جبهة رئيسية في الحرب التي تسعى فيها قوات الدعم السريع إلى تعزيز سيطرتها على إقليم دارفور ليكون مقرا لحكومة موازية. وأدى قادة تلك الحكومة اليمين الشهر الماضي وبدأوا أمس الاثنين في تعيين وزراء. ووفقا لتقديرات الأممالمتحدة، فر ما يقرب من نصف مليون شخص من الفاشر منذ بدء القتال هناك في مايو أيار 2024، بينما بقي فيها 270 ألف شخص. وفيات جماعية غادر أحمد حاج علي وعائلته المدينة الأسبوع الماضي، ووصلوا قبل أيام قليلة إلى الدبة، حيث تحدث مراسل رويترز إلى أكثر من 12 شخصا فروا. وقال "أنا خرجت من الفاشر بسبب ظروف المدينة والأوضاع الصعبة وظروف المعيشة.. هذا غير الدانات (القصف) والإهانة وأشياء كثيره.. يعني الوضع صعب حقيقي.. لا علاج.. لا أكل.. الناس تعاني معاناه شديده في الفاشر"، واصفا أعداد القتلى بالعشرات والمستشفيات المكتظة بالجرحى دون ما يكفي من الضمادات لوقف نزيفهم. وحافظ الجيش والقوات المشتركة المتحالفة معه على سيطرتهم على الفاشر، ورغم تقدم قوات الدعم السريع بالقرب من مقر القيادة العامة الأسبوع الماضي، فقد شن الجيش في الأيام القليلة الماضية حملة بطائرات مسيرة دفعتها للتراجع. وتتكون القوات المشتركة إلى حد بعيد من قبائل غير عربية دائما ما كانت في تنافس مع القبائل العربية التي تشكل نواة قوات الدعم السريع، مما أدى إلى هجمات على أساس عرقي، ومنها خلال الاستيلاء على مخيم زمزم الشاسع للنازحين في أبريل نيسان. وقال أحد السكان شريطة عدم الكشف عن هويته خوفا على حياته إن قوات الدعم وسعت في الآونة الأخيرة متاريس وخنادق حفرتها لمسافة 31 كيلومترا حول معظم المدينة، مما جعل من الصعب على المدنيين المغادرة وأجبر المهربين على حمل الإمدادات الغذائية سيرا على الأقدام. ونتيجة لذلك، ارتفع سعر وعاء من حبوب الدخن يكفي لإعداد وجبة واحدة لثلاثة إلى خمسة أشخاص إلى أكثر من 35 دولارا، ورطل السكر (450 جراما) إلى ما يقرب من 20 دولارا. ويقول السكان إن سعر الأمباز، وهو نوع من علف الحيوانات يلجأ إليه معظم الناس، ارتفع ستة أمثال وأصبح نادرا. وقال مصدر عسكري كبير إن الجيش شن هجوما جويا وبريا كبيرا في ولاية شمال كردفان المجاورة يوم الأحد لكسر الحصار عن الفاشر وكذلك مدينتي الدلنج وكادقلي إلى الجنوب. تجويع واعتداءات جنسية خلصت بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة إلى أن قوات الدعم السريع في الفاشر "ارتكبت جريمة حرب تتمثل في استخدام التجويع عمدا كأسلوب من أساليب الحرب"، وأن حرمان الأفراد من الغذاء وتدمير المستشفيات وعرقلة المساعدات الإنسانية "قد تعد أيضا جريمة إبادة ضد الإنسانية". وفي بيان صدر الأسبوع الماضي، قالت هيئة الأممالمتحدة للمرأة إن الاغتصاب والاعتداءات الجنسية استُخدمت كسلاح حرب في شمال دارفور. وأضافت أن "الحوامل يلدن على أيدي قابلات غير متدربات، دون إمكانية الحصول على الرعاية خلال الولادة المتعثرة". وقال علي، وهو هارب، إنه وشقيقه تعرضا للضرب عند نقطة تفتيش عندما غادرا الفاشر فجرا. وأضاف "خرجت من الفاشر بسبب ظروف المدينة والأوضاع الصعبة وظروف المعيشة... هذا غير الدانات والإهانة وأشياء كثيرة". وأوضح أن المغادرة لم تعد خطرة فحسب، بل أيضا مكلفة، إذ يتطلب الأمر خمسة ملايين جنيه سوداني (حوالي 1600 دولار)، وقليلون هم من يملكون مالا من الأساس. وقد حول أفراد من الدعم السريع عمليات الفرار، شأنها شأن التهريب، إلى نشاط تجاري جانبي. وأضاف "لهذا السبب الناس مجبورين للبقاء". معاناة الأطفال في الحرب نزوح شامل