الضوءُ يدلنا على الأشياء، ويمنحنا المعاني، ويبني بيننا جسراً من التواصل والتفاهم أحياناً، ألا ترى أنك تقف عند إشارة المرور، فتستجيب لأضوائها، وتتفهم معانيها؟! أليست الأضواء الخافتة تدلنا على مفهومات كثيرة: النوم، الهدوء، الكتابة، الإغلاق، الانطفاء، الانتهاء الخ؟! وكذلك الأضواء القوية أليست تعطينا دلالات على الفرح، والمرح، واللعب، وأحياناً التعرف على المعالم، والطرق، والمسارات؟! ألم تضع المطاراتُ والمواني والمرافئ في أبراج المراقبة إضاءاتٍ الهدف منها إدارة حركة العبور، وسلامة المرور؟! إذن فالإضاءات علامات ذات معنى، وهي وسيلة تواصل لنقل الأفكار بين الآخرين؛ ومن هنا كان للضوء علامته السيميائية البالغة، وقيمته التداولية المؤثرة. ويمكن أن نربط ذلك المفهوم بالتأصيل له، حيث ورد ذكر الضوء في القرآن الكريم علامة على الاهتداء كما في قوله تعالى: «وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»، فضوء النجوم إنما هو علامة تدل على الطريق، وقد ذكر بعض المفسرين في معنى الآية: «أي وجعل لكم علاماتٍ ونجوماً تهتدون بها»، كما يرد الضوء في آيات كثيرة دالاً على معنى الإضاءة، أو الاتقاد، أو الإنارة، أو الاهتداء، أو الاقتداء، كما في قوله تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا»، وقال تعالى: «وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا»، وقد يكون الضوء علامة تشير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: «وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا»، فالنور هنا علامة سيميائية دالة على الإضاءة، والإشعاع، والإبصار، إضافة إلى أنه مصدر جمال وبهاء، كما أنه مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- دال على مكانته العظيمة، ومنزلته الرفيعة. وقد يكون النور معياراً تداولياً، يبيّن مقامات التفاضل بين المؤمنين، والمنافقين، كما في قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا»، قال المفسرون: يعطي الله المؤمنين نورًا يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضاً نوراً خديعة لهم، دليله قوله تعالى: «وهو خادعهم». وقيل: إنما يعطون النور؛ لأن جميعهم أهل دعوة دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه؛ قاله ابن عباس. وقال أبو أمامة: يُعطى المؤمن النور، ويترك الكافر والمنافق بلا نور. وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين، ولا يعطون النور، فبينما هم يمشون إذ بعث الله فيهم ريحًا وظلمة، فأطفأ بذلك نور المنافقين، فذلك قوله تعالى: «ربنا أتمم لنا نورنا». وقد يدل الضوء على كمال صفات العلو لله تعالى، والله تعالى ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، قال تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ»، وفي القرآن الكريم آيات أخرى تشير إلى الضوء، بوصفه علامة دالة على معانٍ متنوعة. ولو بحثنا في أحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وفي كلام العرب، وأخبارهم، وأشعارهم، لظفرنا بنصوص كثيرة تتضح فيها سيميائية الضوء وتداوليته، وبعضها قد يكون أكثر جلاءً، على نحو ما ورد في الشاهد المعروف: مَتى تَأتِهِ تَعشو إِلى ضَوءِ نارِهِ / تَجِد خَيرَ نارٍ عِندَها خَيرُ مَوقِدِ. فالضوء هنا علامة سيميائية على الكرم، وهو معنى تداولي يدل على منزلة الممدوح ومكانته. وأمثال ذلك كثير.