السؤال بسيط، وربما يكون هوليوودياً بامتياز: كم مرة تحتاج شخصية من الشخصيات للظهور على الشاشات الصغيرة والكبيرة كي يستحق صاحبها لقب «نجم»؟ في بعض المرات قد يحدث للشخصية أن تظهر مرة واحدة، فتحطم الأرقام القياسية وتتحول إلى نجم نجوم. وفي مرات أخرى، قد تظهر مئات المرات ولا تتمكن من فرض نفسها. ولكن، من المؤكد أنه حين يكون للشخصية اسم استثنائي يتأكد أنها «ستنَجَّم» فوراً، وحتى قبل أن تظهر على أي شاشة. وإذا كنا نعني هنا وينستون تشرشل، «البريطاني الأول في كلّ الأزمان»، بحسب استطلاع رأي أُجري في العام 2002، قد يكون علينا أن نتذكر أنه فاز بجائزة «نوبل» للأدب ذات عام من خمسينات القرن العشرين، من دون أن يزعم أحد أن في الإمكان اعتباره أديباً حقيقياً. ربما يذكّرنا هذا كله بأن تشرشل وصل دائماً إلى الأماكن العليا بدفعة حظ كبيرة، بالمواربة، بل أحياناً تبعاً لمبدأ «بدل عن ضائع». ولئن كان تشرشل ظهر على الشاشة الكبيرة مرة سابقة في العام الماضي، ثم مرة ثانية في هذه الأيام بالذات، حيث تعرِض صالات العالم، وفي انتظار أوسكار أفضل ممثل على الأقل للسير وينستون، فيلماً جديداً عن الزعيم البريطاني السابق وبطل الحرب العالمية الثانية، قاهر هتلر، لو سمحتم!، فإن هذا يعني أن السينما سجّلت خلال الفترة الأخيرة وحدها، ظهور فيلمين عن تشرشل أعاداه إلى الواجهة، وكانت عودته بالمواربة، أي تحت ملامح، مدهشة في نجاح أدائها، لممثِّلَيْن جسّداه على الشاشة: بريان كوكس في الأول وعنوانه بكل بساطة «تشرشل»، وغاري أولدمان في الثاني المعنون «الساعات المعتمة» الذي يحمل الرقم 35 بين الأفلام المكرّسة كلياً أو جزئياً لصاحب السيغار الأشهر في التاريخ، وربما فقط بعد سيغار غيفارا، والرقم 80 وأكثر بين الأعمال الفنية، مسرحية أو موسيقية، تلفزيونية أو طبعاً سينمائية، التي ظهر فيها كلياً أو جزئياً. يُذكر أن ظهوره لم يكن شخصياً في كل ما هو روائي منها، بل بالواسطة ومن طريق عشرات الممثلين الذي برعوا أحياناً، لكنهم غالباً ما فشلوا في تجسيده على الشاشة، حتى جاء أولدمان في «الساعات المعتمة» ليحقّق ما يبدو معجزة فنّية بديعة: زاد وزنه «أطناناً»، وتدفّقت ذقنه حتى وصلت إلى صدره، وثقلت لَكْنَته تحت وطأة ما حُمّلت من سخرية حتى شهق المتفرجون: ها هو السير وينستون أمامهم على الشاشة بشحمه ولحمه. لكن «المعجزة الصغيرة» التي حقّقها أولدمان ممثلاً، لم تنعكس في الفيلم نفسه، إذ حتى لو حمل مخرجه إسماً إنكليزياً بات عريقاً، جو رايت، فإن الفيلم لم يكن في المستوى المطلوب. وهكذا مرة أخرى تأوّه المتفرجون قائلين: يستحق وينستون سينما أفضل من هذه! يصوّر الفيلم وصول تشرشل إلى سدة الحكم في بريطانيا بديلاً لتشامبرلين الذي بدا مسالماً أكثر من اللازم في مواجهة التهديد الهتلري، إذ وصل جنود الرايخ الثالث إلى بلجيكا وباتوا قادرين على الوصول إلى الجزيرة العجوز بقفزة. وكان لا بد في تلك «الساعات المعتمة» من حضور أسد السياسة الداهية، فاستُدعي وتمكّن من دفع النازيين بعيداً في انتظار سحقهم. صحيح أن هذا كله معروف وسبق أن صوّرته آلاف الكتب والأفلام والدراسات وشاشات التلفزة، ولم يأت بجديد فيه فيلم جون رايت، لكن المسألة هنا هي الوجه الآخر للحدث: عودة تشرشل إلى الشاشة، عودة تذكرنا بافتقار العالم اليوم إلى السياسيين الكبار، إلى العبارات الذكية «السامة» التي يعرف الكبار قولها، والى الاستراتيجيات المدهشة التي يعرفون بالفطرة كيف يصيغونها. لو لم يكن في فيلم «الساعات المعتمة» غير هذا، وليس فيه غير هذا على أي حال، إن وضعنا جانباً أداء غاري أولدمان الأوسكاري الحقيقي، يمكننا القول إن هذا الفيلم شكّل الحدث الفني الأكبر عند نهاية العام. حدثٌ فني لكنه ذو نكهة سياسية قادرة بلا شك على إثارة قدر من الشجن والحنين وسط الغياب المؤسي للسياسة والسياسيين الحقيقيين، للرجال الأقوياء الكبار.