حين نتأمل التاريخ البشري من أوسع زواياه، نكتشف أن الأمم التي تجاوزت حدودها، وارتقت فوق جغرافيتها، لم تفعل ذلك بالقوة أو الثروة وحدهما، بل فعلته حين جعلت العقل أداتها الأولى، والعلم مشروعها الوطني، والبحث والتطوير بوابتها للمستقبل. كل دولة صعدت وخلّدت اسمها كانت تحمل في الداخل معامل تضيء ليلها، وباحثين يحفرون في أطراف المجهول، وقيادة تدرك أن المعلومة هي رأس المال الحقيقي، وأن المعرفة هي البنية التحتية التي تسبق الخرسانة والحديد. وفي عالم اليوم، لم يعد البحث والتطوير رفاهية أكاديمية أو أداة تجميل سياسي، بل تحوّل إلى معيار تنموي يقيس به الاقتصاديون جودة الدول، وتقيس به المجتمعات قدرتها على إنتاج الفرص. وإذا كان النفط قد قدّم للدول الريعية دخلاً سريعاً، فإن البحث العلمي وحده هو الذي يمنحها استدامة النمو وقدرتها على التنافس. وفي السياق السعودي، جاءت رؤية 2030 لتقلب معادلة طويلة كانت فيها العلوم محصورة في قاعات الجامعات، وتعلن أنّ البحث والتطوير لم يعد نشاطاً هامشياً، بل مشروع دولة، واستثماراً سياديّاً، ومحركاً اقتصادياً لا يقل أهمية عن الطاقة والسياحة والصناعة. هذه الرؤية لم تُطلق شعارات، بل بدأت بقياس الواقع، ثم ضخّ الاستثمارات، وفتح المسارات المهنية، ورفع مستوى الحوكمة العلمية، وبناء ثقافة جديدة تُشعر الباحث أنه جزء من اقتصاد حقيقي وليس مجرد رقم في سجل أكاديمي. ولفهم حجم التحوّل، يكفي النظر إلى الأرقام الحديثة. فقد سجّل الإنفاق على البحث والتطوير في السعودية خلال عام 2024 ارتفاعاً بنسبة 30.4 % مقارنة بالعام السابق، ليصل إلى 29.48 مليار ريال، هذا النمو ليس مجرد زيادة مالية، بل يعكس انتقالاً في الوعي التنموي، إذ لا تنفق الدول بهذه الوتيرة إلّا حين تدرك أن المستقبل يصنعه الباحثون لا المستوردون. وحين نقترب من تفاصيل تمويل البحث والتطوير، نجد أن القطاع الحكومي يمثّل 53.2 % من إجمالي التمويل بقيمة 15.69 مليار ريال، فيما يسهم قطاع الأعمال بنسبة 41.1 % بقيمة 12.10 مليار ريال، بينما يأتي قطاع التعليم العالي بنسبة 5.7 % بقيمة 1.69 مليار ريال . هذه التركيبة تعكس تحوّلاً مهماً، إذ لم يعد العبء على الحكومة وحدها، بل دخلت الشركات الكبرى إلى المشهد باعتبارها طرفاً محركاً للابتكار، وهذا هو ما تصنعه الرؤى الوطنية حين تجذب القطاع الخاص إلى الحقول التي كانت حكومية بالكامل، أما على مستوى الإنفاق الفعلي على البحث والتطوير، فقد جاء قطاع الأعمال في المقدّمة بنسبة 40.3 % بقيمة 11.87 مليار ريال، يليه القطاع الحكومي بنسبة 40.2 % بقيمة 11.86 مليار ريال، ثم قطاع التعليم العالي بنسبة 19.5 % بقيمة 5.75 مليارات ريال. هذه الأرقام توضح أن الابتكار لم يعد نشاطاً أكاديمياً فحسب، بل أصبح جزءاً من السلوك الاقتصادي للشركات، وهذا عنصر جوهري في بناء اقتصاد معرفي حقيقي. ويتضح حجم التحوّل أكثر حين ننظر إلى المجالات الاقتصادية التي يذهب إليها الإنفاق العلمي. فقد استحوذت أنشطة التعدين والصناعة والكهرباء والمياه على 31.4 % من الإنفاق، تلتها الخدمات المالية والتأمين والعقارات بنسبة 22.3 %، ثم خدمات الأعمال بنسبة 19.9 % هذا التنوع هو ما يضمن أن الأثر العلمي لا يظل محصوراً في المختبر، بل يمتد إلى الاقتصاد كله بما يشمل الصناعة والطاقة والقطاع المالي، بما يعني أن المعرفة بدأت تتحول إلى قيمة اقتصادية ملموسة. ولأن البحث العلمي لا يقوم على المال وحده، بل على الإنسان أولاً، فقد ارتفع عدد العاملين في مجالات البحث والتطوير إلى 56,593 مشتغلاً عام 2024 بنمو 14.7 %، وبلغ عدد الباحثين 41,562 باحثاً بزيادة 12.8 % عن العام السابق. هذه الزيادة لم تأتِ من فراغ، بل جاءت نتيجة فتح مسارات وظيفية، وإطلاق برامج للابتعاث والتمكين، وتحويل الباحث من متلقٍّ للمعرفة إلى منتج لها، وعند توزيع المشتغلين حسب القطاعات، نجد أن قطاع التعليم العالي يستحوذ على 71.3 % من العاملين في البحث والتطوير، تليه الشركات بنسبة 22 %، ثم القطاع الحكومي بنسبة 6.7 % وهو نمط طبيعي في الدول التي تبني اقتصاداً معرفياً ناشئاً، حيث تكون الجامعات هي المنصة الأكبر في البدايات، قبل أن ينتقل مركز الثقل تدريجياً إلى الشركات والصناعة. أما الباحثون تحديداً، فقد كان 83.4 % منهم في قطاع التعليم العالي، وهو رقم يعكس تركز الخبرة البحثية في الجامعات، لكن وجود 11.6 % منهم في قطاع الأعمال و5 % في القطاع الحكومي يشير إلى بدء تحرك النظام العلمي نحو نموذج أكثر تنوعاً وتوازناً. وإذا كان السؤال: ماذا تعني هذه الأرقام فعلاً؟ فإن الجواب ببساطة أن السعودية تبني الآن قاعدة معرفية تشبه ما فعلته الدول التي انتقلت خلال عقود قليلة من الاقتصادات التقليدية إلى مراكز عالمية في التقنية والصناعة والبحث. الأثر الاجتماعي لهذا التحولات لا يقل عن أثرها الاقتصادي، فالبلد الذي أصبحت فيه مهنة الباحث خياراً مغرياً، وارتبط فيه العلم بالترقي المهني، وازدادت فيه قيمة الابتكار، هو بلد يخلق جيلاً جديداً يرى مستقبله في العقل لا في الحظ. إن البحث العلمي ليس مختبراً، بل ثقافة وطنية ورؤية للدولة تجاه ذاتها. وحين تربط السعودية بين البحث والتطوير وبين رؤية 2030، فهي لا تبني مشروعات قصيرة المدى، بل تبني ذاكرة مستقبلية تضمن بقاءها كقوة اقتصادية إقليمية وعالمية. فالدول لا تنهض حين تزيد وارداتها، بل حين تزيد معارفها. ولا تنجح حين تستهلك ما ينتجه الآخرون، بل حين تبتكر منتجاتها وأفكارها ونماذجها الاقتصادية. وفي النهاية، يمكنني القول إن الأرقام التي راكمتها المملكة خلال الأعوام الأخيرة ليست مجرد مؤشرات أداء، بل هي بداية حقيقية لعصر جديد تكون فيه السعودية مصدّراً للمعرفة، ومنتجاً للتقنية، وصاحبة أثر علمي يتجاوز حدودها. ومع استمرار هذا الاتجاه، يصبح البحث العلمي هو السردية الكبرى لنهضتها الحديثة، وهو أحد أعمدة مستقبلها في عالم لا يرحم المتأخرين في ميدان الابتكار.