مسؤولون: الخطاب ترجمة لاهتمام القيادة بتعزيز الأمن والاستقرار    وزير الداخلية لنظيره القطري: القيادة وجهت بتسخير الإمكانات لدعمكم    المملكة تعزي قطر في وفاة أحد منسوبي قوة الأمن الداخلي جراء الاعتداء الإسرائيلي الآثم    أرامكو تصدر صكوكاً دولارية دولية    إسهاماً في تعزيز مسيرة القطاع في السعودية.. برنامج لتأهيل «خبراء المستقبل» في الأمن السيبراني    «الفطرية»: برنامج لمراقبة الشعاب المرجانية    وزير الدفاع لرئيس وزراء قطر: نقف معكم وندين الهجوم الإجرامي السافر    200 شخص اعتقلوا في أول يوم لحكومة لوكورنو.. احتجاجات واسعة في فرنسا    السعودية ترحب وتدعم انتهاج الحلول الدبلوماسية.. اتفاق بين إيران والوكالة الذرية على استئناف التعاون    الأخضر بطلاً لكأس الخليج تحت 20 عاماً    إثارة دوري روشن تعود بانطلاق الجولة الثانية.. الاتحاد والهلال يواجهان الفتح والقادسية    هوساوي: أعتز برحلتي الجديدة مع الأهلي    أكد أن النجاحات تحققت بفضل التعاون والتكامل.. نائب أمير مكة يطلع على خطط طوارئ الحج    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل رئيس فريق تقييم أداء الجهات الحكومية المشاركة في تنفيذ الخطة العامة للطوارئ    منافسة نسائية في دراما رمضان 2026    معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2025.. موروث ثقافي يعزز الأثر الاجتماعي والحراك الاقتصادي    سكان غزة.. يرفضون أوامر الإخلاء ومحاولات التهجير    العراق: الإفراج عن باحثة مختطفة منذ 2023    «الرياض» ترصد أبرز التجارب العالمية في سوق الرهن العقاري وتأثيره على الإسكان    حساب المواطن ثلاثة مليارات ريال لمستفيدي شهر سبتمبر    الفضلي يستعرض مشروعات المياه    فيلانويفا يدافع عن قميص الفيحاء    باتشيكو حارساً للفتح    غوميز: مهمتنا صعبة أمام الاتحاد    مُحافظ الطائف: الخطاب الملكي تجسيد رؤية القيادة لمستقبل المملكة    اليوم الوطني.. نبراس للتنمية والأمان    هيئة الشرقية تنظّم "سبل الوقاية من الابتزاز"    الكشافة السعودية تشارك في الجامبوري العالمي    مبادرات جمعية الصم تخدم ثلاثة آلاف مستفيد    خطاب يصوغ المستقبل    واشنطن تستعد لتحرّك حازم ضد موسكو    "التعليم" توقع اتفاقية "الروبوت والرياضات اللاسلكية"    «آسان» و«الدارة» يدعمان استدامة التراث السعودي    «سلطان الخيرية» تعزز تعليم العربية في آسيا الوسطى    «الحج والعمرة» تُطلق تحدي «إعاشة ثون»    التأييد الحقيقي    "الشيخوخة الصحية" يلفت أنظار زوار فعالية العلاج الطبيعي بسيهات    إنقاذ حياة مواطنَيْن من تمزّق الحاجز البطيني    2.47 تريليون ريال عقود التمويل الإسلامي    59% يفضلون تحويل الأموال عبر التطبيقات الرقمية    الهجوم الإسرائيلي في قطر يفضح تقاعس واشنطن ويغضب الخليج    هل توقف العقوبات انتهاكات الاحتلال في غزة    المكملات بين الاستخدام الواعي والانزلاق الخفي    مُحافظ الطائف: الخطاب الملكي تجسيد رؤية القيادة لمستقبل المملكة    الأمير فهد بن جلوي توَّج الملاك الفائزين في تاسع أيام المهرجان    السبع العجاف والسبع السمان: قانون التحول في مسيرة الحياة    فضيلة المستشار الشرعي بجازان: " ثمرة تماسك المجتمع تنمية الوطن وازدهاره"    تعليم الطائف يعلن بدء استقبال طلبات إعادة شهادة الثانوية لعام 1447    نائب أمير منطقة تبوك يستعرض منجزات وأعمال لجنة تراحم بالمنطقة    ختام بطولات الموسم الثالث من الدوري السعودي للرياضات القتالية الإلكترونية    البرامج الجامعية القصيرة تمهد لجيل من الكفاءات الصحية الشابة    أمير المدينة يلتقي العلماء والمشاركين في حلقة نقاش "المزارع الوقفية"    أحلام تبدأ بروفاتها المكثفة استعدادًا لحفلها في موسم جدة    نيابة عن خادم الحرمين.. ولي العهد يُلقي الخطاب الملكي السنوي لافتتاح أعمال الشورى في الدور التشريغي 9 اليوم    "التخصصي" يفتتح جناح الأعصاب الذكي    إنتاج أول فيلم رسوم بالذكاء الاصطناعي    مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد: سلطات الاحتلال تمارس انتهاكات جسيمة ويجب محاسبتها    أهمية إدراج فحص المخدرات والأمراض النفسية قبل الزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من المستر يونيك الى المستر بريمر . دساتير العراق "الموقتة" : الشعب مصدر السلطات من دون انتخابات أو استفتاءات !
نشر في الحياة يوم 20 - 04 - 2005

كان العراق البلد العربي الأول الذي وضعت فيه صيغة طموحة لدستور طموح، كان مقدراً له أن يجعل منه واحداً من البلدان من الدول السائرة في مضمار المدنية والتحضر، حتى ضمن المقاييس السائدة اليوم. لكن الإشكالية التي ما زلنا نشهد فصولها تكمن في ذلك الإنفصال - المروع في الغالب - بين المفترض المتمنى والواقع المعيش.
قدر لعشرينات القرن الماضي ان تشهد ولادة دولة ورثت اسماً كان معروفاً في تدوينات سجل الحضارة منذ الألف الرابع قبل الميلاد، فقد إشتق أسم العراق من كلمة "اوروك" السومرية، وتعني المضيء أو المنير، وكان السومريون هم أول من عرف برلماناً مثله مجلسا اعيان وعموم كانا يساعدان الملك في إدارة الدولة. كذلك من الثابت ان أول دستور مكتوب عرفته البشرية كان شريعة "اور نمو" الذي يعود الى 2700 ق م، ومع ذلك إنصرمت قرون طويلة قبل أن تعود حكاية الدستور في العراق الى الظهور من جديد، ولكن بمفارقة غريبة. فالشعب الذي أهدى للتاريخ دستوره الأول، تلقى دستوره الأول في العصر الحديث كهبة من محتل. فقد شرع الإحتلال البريطاني بتشكيل حكومة عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب أنيط بها وضع قانون أساسي إبتداء من أيلول سبتمبر 1921 بأشراف بريطاني مباشر، طبقاً للمادة الأولى من وثيقة الإنتداب التي أشارت الى وضع قانون اساسي للعراق في مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات، إعتبارا من تاريخ نفاذ الإنتداب، على أن يعرض بعدها على عصبة الأمم للمصادقة عليه.
وفي وزارة المستعمرات البريطانية، تشكلت لجنة من المستر يونيك والسير برنهام إدواردو والمندوب السامي السير بيرسي كوكس، مع مشاركة محدودة من الجانب العراقي مثلها ناجي السويدي وزير العدلية وساسون حسقيل وزير المالية. وبعد مشاورات ومداولات مع لجنة عراقية برئاسة عبد المحسن السعدون وعضوية السويدي ورؤوف الجادرجي، أعلن عن ولادة ما سمي يومها" القانون الاساسي العراقي لعام 1925".
وبعد إعلان الملكية في العراق عام 1921 وتتويج فيصل الأول ملكاً، وضع القانون موضع التنفيذ بحسب الموعد المقرر، بعدما تمت المصادقة عليه. وتضمن القانون مقدمة وعشرة أبواب شملت 123 مادة. وتحدثت المقدمة عن الشكل الملكي الوراثي النيابي للمملكة العراقية، وعن العاصمة بغداد، كما حددت العلم العراقي، وهو العلم العربي التقليدي، مع كوكبين أبيضين ذوي سبعة أضلاع، وهو العلم الذي ما زال معتمداً من قبل الحركة الملكية الدستورية في العراق.
حدد الباب الأول الذي شمل 18 مادة حقوق الشعب، وتضمنت ما هو متعارف عليه تقليدياًً في الدساتير المكتوبة، كالمساواة أمام القانون بين أفراد الشعب على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية في حقوقهم وواجباتهم وحريتهم في الملكية والنقد والتعبير، وتشكيل الجمعيات والأحزاب، بالإضافة إلى حماية المعتقدات وممارسة الشعائر الدينية، مع إقرار الإسلام ديناً رسمياً للدولة، والعربية لغة رسمية وحيدة للبلاد.
لم يكن في المواد العامة ما يشير الى ان هذا القانون حمل "فيروسات" موته منذ البداية. لكن المدقق للأمور، سيكتشف أن تطبيقاُ جيداً لبنوده سيتطلب بنية إجتماعية وإقتصادية لم تكن متوافرة في العراق آنذاك، اذ كان مجرد قانون نسخت بعض بنوده عن القوانين الأوروبية بشكل عام، وأدى إدخال تعديلات جوهرية تطلبتها الحالة العراقية وضروراتها الى تحويله مخلوقاً هجيناً تمزقه الولاءات المتعددة بين الوطنية العراقية الناشئة وغير المحددة المعالم بعد، وبين التبعية الضاغطة لحداثة المستعمر وإنجازاتها العلمية والتقنية المذهلة، أوالحنين الى الخلافة العثمانية الآفلة التي تسربت لاحقاً الى قانون الجنسية الشهير الذي يشترط على العراقي تبعيته العثمانية حصراً.
منح الملك صلاحيات واسعة لا تحمله مسؤولية أمام أحد، وجاء القانون "ذكوريا" بالمعنى الحقوقي نصاً، إذ حرمت المرأة من حقي الترشح والإنتخاب، كما نشات بموازاة الدستور وكحارسةله على مايفترض ،مؤسسة أخرى سيكون لها الشأن الأكبر في تحديد مستقبل العراق وخنق الدستور بكل بنوده، وهي المؤسسة العسكرية التي تناوب ضباطها على تشكيل الحكومات وإمتلاك مصادر القوة والقرار. ومع مرور الوقت وتبدل الأحوال، تحولت تلك المؤسسة من حامية للدستور والوطن الى الخطر الأكبرعليهما معا، ومن ثم منتهكة لهما بصورة سافرة.
أما الإشكالية الرئيسة فتجلت في ما يمكن تسميته الإلتفاف على بنود الدستور، اذ إنّ ممارسة الحرّيات والحقوق المذكورة تشترط أن تتم ضمن القانون، من دون تحديد آلية دستورية معينة للتطبيق أو الرقابة أو التفسير الملزم لذلك القانون، مما يجعل الدستور عرضة للتلاعب والإستثمار الخاص، كما انه أغفل الحديث عن واجبات الملك مقابل الحديث عن صلاحياته الواسعة، كذلك توارث مفهوم الدولة بشكله القديم الذي ينظر الى الوطن بإعتباره أملاكاً خاصة يمكن رهنها وإيداعها.
وتجدر الإشارة إن هذا القانون تعرض لتعديلات ثلاثة، صدر أولها في العام ذاته لإستكمال بعض بنود القانون الأساسي، فيما صدر التعديل الثاني بعدها بثمانية عشر عاماً 1943 بعد حركة رشيد عالي الكيلاني، ثم التعديل الثالث والاخير الذي أملته ظروف الإستعداد لقيام الإتحاد الهاشمي قبل اشهر من الإطاحة بالملكية عام 1958، ليدخل العراق في دوامة الدساتير الموقتة حتى الساعة.
العراق الجمهوري وقضية الدستور
جاء في ديباجة الدستور الموقت الذي كتبه الحقوقي العراقي حسين جميل في أقل من بضعة ايام ما يأتي "لما كانت الحركة الوطنية التي قام الجيش العراقي بمؤازرة الشعب وتاييده تهدف الى تحقيق سيادة الشعب والعمل على منع إغتصابها وضمان حقوق المواطنين وصيانتها فأننا بإسم الشعب نعلن سقوط القانون الأساسي العراقي وتعديلاته كافة، منذ 14 تموز 1958، ورغبة في تثبيت قواعد الحكم وتنظيم الحقوق والواجبات لجميع المواطنين، نعلن الدستور الموقت هذا للعمل بأحكامه في فترة الإنتقال الى أن يتم تشريع الدستور".
أنها لغة بيان حربي كما هو واضح من صياغتها، لذا جاءت بقية البنود بمثابة إعلان مقتضب لم يزد على أربعة ابواب و30 مادة ، تناول الباب الأول إعلان الجمهورية بديانتها الرسمية "الإسلام" ? قيل ان عبد الكريم قاسم أضاف هذا البند بخط يده - وعاصمتها بغداد، والإقرار بالمساواة التامة بين أفراد الشعب، فيما تحدث الباب الثاني عن والحقوق والواجبات، فأقرّ بأن الشعب هو مصدر السلطات، ويتمتع بالكثير من الحقوق والحريات العامة، من دون ذكر الكيفية التي سيمارس الشعب من خلالها حقوقه تلك. وتحدث الباب الثالث عن اعتماد نظام الحكم الجمهوري الذي أوكل السلطات التنفيذية والتشريعية لمجلسي السيادة والوزراء، مع تجاهل الإشارة الى اية مؤسسة اخرى يمكنها ان تلعب دوراً في التشريع. وجاء الباب الرابع عن أحكام متفرقة حول المراسيم والتشريعات.
وعلى رغم أن الدستور الجديد أقرّ بأن الشعب هو مصدر السلطات، وبالتالي ألغى الفكرة الملكية القائلة بأحقية الملك وورثته بحكم العراق، إلا أن لم يلحظ أي بند يحقق هذه "المصدرية للشعب", لا بانتخابات عامة ولا باستفتاء على الدستور، وستبقى هذه السمات تتحكم في كافة الدساتير المؤقتة التي ستلي ذلك، بعد سلسلة الإنقلابات التي شهدها العراق، وسيفقد العراقيون بالتالي فرصة التحول الديمقراطي نحو الحكم المدني المقونن بدستور دائم نابع عن عقد اجتماعي حقيقي.
كان ذلك الإعلان موقتاً بحق، فلم يعش أكثر من بضع سنوات، قبل ان يتهاوى تحت ضربات "موقت" آخر جاء به هذه المرة عبد السلام عارف، الذي فتح بازار الإنقلابات على مصراعيه, فبات كل ضابط أصبح يبحث عن أنصار ومحازبين ليتبوأ سدة الحكم التي إغتصبها غيره.
في الثامن من شباط فبراير 1963، أطيح بقاسم في حركة إنقلابية قادها تحالف مكون من جناحي القوميين والبعث، وعلى أثرها تمت صياغة دستور جديد موقت تحت اسم "قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة رقم 25 لسنة 1963"، وإن كان الدستور المنقلب عليه، أنبت بذور التسلط والشمولية واستبعاد الرأي الشعبي، فقد قطع الدستور الجديد شوطاً معتبراً في هذا المضمار، فكرس السلطات كلّها بيد مجلس قيادة الثورة المكون من 20 عضواً، اختيروا جميعاُ من قادة الإنقلاب المذكور. ومن الطريف في هذا الدستور، تلك الفقرة التي تعرّف مجلس قيادة الثورة بأنه:" الجهاز الثوري القيادي الذي قاد جماهير الشعب والقوات المسلحة الوطنية في الرابع عشر من رمضان 1382 8 شباط 1963 وأسقط نظام حكم عبد الكريم قاسم وأقام باسم الشعب ولمصلحته السلطة الثورية القائمة في العراق".
تألف الدستور"العارفي" من 20 مادة، تحدثت مادته الأولى عن مجلس قيادة الثورة، والثانية عن صلاحيات هذا المجلس غير المقيدة بشيء، وتناولت بقية المواد تنظيم أعمال المجلس وكيفية اتخاذ القرارات، ومقام رئاسة الجمهورية، وصلاحيات الوزراء وغيرها من الأمور التنظيمية. وأغفل الدستور أي حديث عن حقوق المواطنين والحرية الموعودة.
وما أن حل تشرين الثاني نوفمبر من العام نفسه، حتى أطيح بالحليف البعثي في إنقلاب جديد قاده الرئيس عبد السلام عارف، معلناُ بعدها عن قانون جديد تحت عنوان "قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة رقم 61 لسنة 1964" خصً به نفسه بصلاحيات واسعة. لكن الحالة لم تدم طويلً ، فقد قتل الرئيس في حادث طائرة وتولى شقيقه عبد الرحمن عارف الحكم في نيسان إبريل 1966، وفي عهده تسلم الدكتور عبد الرحمن البزاز رئاسة الوزراء، فوقع مع الأكراد بياناً للإعتراف بحقوقهم موقفاً بذلك مرحلة من الإضطراب الدامي، وأشاع نوعاً من الإستقرار السياسي بدا فيه العراق وكأنه متجه نحو إقرار دستور دائم. لكن الأحداث توالت بعدها بشكل دراماتيكي، فقد إندلعت حرب حزيران يونيو 1967 وأعلن العراق مشاركته فيها، ثم جاء إنقلاب البعث وملحقاته في 17 تموز ثم في 30 منه عام 1968 ضد كتلة النايف والداود، وعندها دخل "السندباد" الدستوري مغامرة جديدة. فقد ألبس الجسد الممزق للدستور وجهاً جديداً في 21 أيلول 1968 أعلن في بنده الأول أن الجمهورية العراقية دولة ديقراطية شعبية تستمد أصول ديمقراطيتها من التراث العربي والإسلامي، كذلك تم إدراج العديد من المواد الني تحدثت عن مقومات المجتمع والحقوق والواجبات ونظام الحكم والمباديء الدستورية وسواها. ولجعل تلك التوجهات أكثر صدقية كما بدا حينها، صدر دستور موقت آخر في 16 تموز 1970 ومن الجهة الحاكمة ذاتها، اعد من قبل لجنة مكونة من مسؤول دائرة الشؤون القانونية في مجلس القيادة وإستاذين من كلية القانون في جامعة بغداد. وترأس لجنة الإعداد هذه نائب رئيس مجلس قيادة الثورة آنذاك صدام حسين الذي لم يكن يمتلك أية مؤهلات خاصة تخوله التعامل مع وثيقة خطيرة من هذا النوع ستحدد مصير البلاد لعقود مقبلة.
تألف الدستور من خمسة أبواب و70 مادة، وعرّف العراق بأنه جمهورية ديمقراطية شعبية. أما أهم ما جاء في بنوده، فكان الإعتراف بالكردية لغة رسمية الى جانب العربية والإقرار بتكون العراق من قوميتين رئيسيتين هما العربية والكردية، ولم ينس الإشارة الى ان الشعب هو مصدر السلطة وشرعيتها. كما إستكملت المادة الأولى بفقرة جاء فيها:"...هدفه الأساس تحقيق الدولة العربية الواحدة" التي ربما وضعت الأساس "الدستوري" للتدخلات العراقية اللاحقة في شوؤن الكثير من الدول العربية، والتي توجت بمأساة إحتلال الكويت وما تلاها من نكبات وكوارث. كذلك تحدث عن نظام الحكم وعن نقل السلطة التشريعية من مجلس قيادة الثورة إلى المجلس الوطني المنتخب بعد فترة، والمجلس الوطني، كان هو البرلمان الشكلي أو ما يشبه "حاشية الملك" في الأنظمة الأوربية القديمة، وهكذا قيض لهذا الدستور "الموقت" أن يدوم حتى سقوط بغداد بيد الغزو الأميركي عام 2003.
بعد الأحداث العاصفة التي شهدتها بلدان ما سمي يومها بالمعسكر الإشتراكي وتهاوي الأنظمة الشمولية فيها، جرت في العراق عام 1990 محاولة لوضع دستور دائم كان مقدراً له ان يعرض على إستفتاء شعبي. وقد بدا العمل في وضع صياغته الأولى منذ ما قبل منتصف عام 1989، وإرتفعت وتيرة الحديث في تلك المرحلة عن التعددية السياسية وحق تشكيل الاحزاب والدعوة الى الإنفتاح والتفاعل مع الأحداث الدولية وغيرها، وجاءت مسودة الدستور في ثمانية أبواب وعشرة فصول تضمنت 179 مادة، وذكر في مقدمته إسم صدام حسين بإعتباره القائد الرمز وقائد الشعب وإبن الشعب وقائده الخ من الصفات التي كانت تشير الى الوجهة التي سيسلكها ذلك الدستور وتطبيقاته المفترضة بتكريس هيمنة سلطة الفرد، كذلك ورد ذكر حزب البعث مرات عدة في المقدمة وحدها، بإعتباره الحزب القائد وصانع أمجاد الوطن وصائن حريته وإستقلاله، وكان مقدراً لهذا الدستور ان ينال نسبة ال99.99 في المئة المعتادة، لولا إندلاع حرب الخليج الثانية وما تبعها من نتائج ألقت بتلك المحاولة الى غياهب العدم.
عن عمر ناهز إثنين وثمانين عاماً، قضت الدولة العراقية الحديثة تحت جنازير الدبابات الأميركية بعد صراع طويل مع أمراض ومعارك وطعنات لا مثيل لها ومن ثم تدشن رحلة جديدة، يقطعها ذلك السندباد المثخن بالجراح ليشهد حكاية بدأت مع إقرار قانون إدارة الدولة الموقت للعام 2003 الذي جاء في بعض ديباجته "أن الشعب العراقي الساعي الى إسترداد حريته التي صادرها النظام الإستبدادي السابق. هذا الشعب الرافض للعنف والإكراه بكل اشكالهما وبوجه خاص عند إستخدامهما كاسلوب من اساليب الحكم". ثم تختم بالفقرة التالية "اقر هذا القانون لإدارة شؤون العراق خلال المرحلة الإنتقالية الى حين قيام حكومة منتخبة تعمل في ظل دستور شرعي دائم سعياً لتحقيق ديمقراطية كاملة".
وهكذا يستحضر الشعب مرة اخرى ليوضع بإسمه قانون موقت إحتوى على تسعة ابواب وإثنتين وستين مادة، وللمرة الاولى تتم الإشارة الى موضوع العراق بإعتباره جمهورية فيديرالية، وبنظام رئاسي مكون من هيئة ثلاثية يملك كل عضو فيها حق النقض. كذلك وضع مادة خاصة تمنح حق الإعتراض لثلاث محافظات على مسودة الدستور، إذا صوتت بأكثرية الثلثين, وفي هذا أعطيت للأقلية ضمانة تعطيل الدستور كي تحفظ حقها من طغيان الأكثرية، وعلى رغم ان هذه المادة تتناقض مع المبادئ الديمقراطية في الحكم، الإ انها اتت متلازمة مع الواقع العراقي الراهن الذي تطغى عليه مفاهيم الأكثرية والأقلية طبقاً لتقسيمات عرقية او طائفية ثابتة، وليس أكثرية سياسية متحركة كما يفترضه النظام الديمقراطي.
وللمرة الأولى في تاريخ العراق تحصل إنتخابات حقيقية يعبر فيها الشعب عن رأيه في صياغة دستوره الدائم، وهذه مفارقة في حاجة الى الكثير من الدراسة والتامل في حيثياتها وظروف قيامها، فقد وضع واقر الدستور الدائم الوحيد ايام احتلال بريطاني مباشر، وكانت مرة يتيمة لم تتكر الإ مع إحتلال مباشر آخر، في زمن يفترض فيه أن عصر الإحتلالات العسكرية قد إنتهى.
لا بد ان ما يجري في العراق اليوم، وما سبقه في البوسنة وكوسوفو وأفغانستان وغيرها - مع إختلاف الظروف والمعطيات - سيطرح الكثير من المسلّمات على مشرحة التفحص والقراءة، ومنها مسألة السيادة الوطنية والدساتير المحلية ومقدار الحماية التي تستطيع توفيرها لمجتمعاتها ذاتياً، أي من دون إرتباطها ب"دستور دولي" أو حاضنة دولية على وجه الدقة. إذ ان قراءة المثال العراقي بمفرده، ستفتح باب الأسئلة على مصراعيه. فعلى رغم الحالة المتقدمة نسبياً التي يحتضنها العراق على صعيد إمتلاكه ثروات طبيعية تستطيع توفير قاعدة إقتصادية جيدة، ومجتمعاً حيوياً متعدداً يستند الى إرث حضاري عريق وموقع جغرافي مهم، إضافة الى تجربة حزبية وسياسية متنوعة، وهي عوامل كان من شانهأ توفير بيئة مناسبة لقيام ديمقراطية مستقرة ينظمها دستور دائم، الإ أن الأحداث كانت تتجه دائماً الى عكس مسارها الطبيعي. فالثروات اهدرت على حماقات وحروب عبثية حركتها أطماع وأحلام بامجاد خاصة، والتعدد المجتمعي آل الى تعصب وإنغلاق تنافري، والممارسة السياسية إنحدرت الى أدنى مستوياتها، وتبعثر الأرث الحضاري ومعه الهوية الوطنية ومتطلبات بلورتها. لكن ربما كانت لهذه التجارب المريرة، نقطة الفصل في ان يبني العراقيون حاضرهم ومستقبلهم، بالقطع مع سجل ذاكرتهم المدماة، والبدء من ثم بمرحلة ليست أخرى، بل جديدة بالكامل، ينشأ فيها دستور شاب يستمد قوته من حرص شعبه على حفظه وصيانته من كل تشويه او إنحراف، وعندها يصبح الشعب - والشعب وحده - هذه المرة المصدر الحقيقي للسلطات.
* كاتب عراقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.