يُعد سوق الرهن العقاري أحد أكبر الأسواق المالية في العالم، حيث يمثل تمويل السكن الرئيس للأفراد والعائلات، ويساهم في نمو الاقتصادات من خلال زيادة الاستثمار في العقارات والتشغيل، من جهة أخرى، يتأثر حجم السوق بعوامل مثل أسعار الفائدة، والتضخم، والدخل المتاح، والسياسات الحكومية.. وتسيطر الأسواق المتقدمة على أكثر من 80 % من السوق العالمي، مع التركيز على أمريكا الشمالية وأوروبا.. "الرياض" ترصد في هذا التقرير أبرز التجارب العالمية في الرهن العقاري، وكيف أثرت هذه التجارب على أسواقها العقارية، ونستخلص أهم الدروس المستفادة من هذه التجارب الدولية. نظرة عامة على سوق الرهن العقاري يُقدر حجم السوق العالمي للرهن العقاري، بما في ذلك الديون المعلقة والإصدارات الجديدة، بحوالي 2 تريليون دولار للإصدارات السنوية، بينما يصل إجمالي الديون السكنية المعلقة إلى أكثر من 60 تريليون دولار، مع تركيز كبير في الأسواق المتقدمة، وقد بلغت الإصدارات الجديدة حوالي 1.56 تريليون دولار في 2024، ومن المتوقع أن تنمو إلى 2.5 تريليون دولار بحلول 2035، بمعدل نمو سنوي مركب 4.37%، مدفوعًا بالطلب على السكن في الأسواق الناشئة، انخفاض أسعار الفائدة التدريجي، والرقمنة في الإقراض، وفي الولاياتالمتحدة وحدها، بلغت الإصدارات 1.69 تريليون دولار في 2024. يُقدر إجمالي الديون المعلقة بحوالي 12.8 تريليون دولار في الولاياتالمتحدة وحدها، مع إجمالي عالمي يتجاوز 60 تريليون دولار، حيث تمثل الرهون السكنية 70% من الديون الاستهلاكية في الدول المتقدمة، ففي أوروبا، بلغت الرهون السكنية أكثر من 7 تريليونات يورو في 2020، ومن المتوقع نموها بنسبة 4-5% سنويًا حتى 2030 بسبب التحضر والدعم الحكومي. ومع انخفاض التضخم وتخفيض أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية مثل الاحتياطي الفيدرالي، من المتوقع نمو السوق بنسبة 12% سنويًا حتى 2028، ليصل إلى 1.8 تريليون دولار في الإصدارات، ومع ذلك، يواجه السوق تحديات مثل ارتفاع أسعار المنازل التي ارتفعت بنسبة 3-6% في معظم الأسواق في 2024 وارتفاع التكاليف الحية، وهي التكاليف المرتبطة بالحصول على الرهن العقاري وتكلفة امتلاك العقار، وتُقسم إلى تكاليف أولية عند شراء العقار مثل الدفعة المقدمة ورسوم الإغلاق، وتكاليف مستمرة شهرية مثل أقساط القرض، والفوائد، والتأمين، والضرائب. التجربة الأميركية: النمو السريع والأزمة المالية بدأت تجربة الرهن العقاري في الولاياتالمتحدة في الثلاثينيات، مع إنشاء إدارة الإسكان الفيدرالية (FHA) عام 1934 لتأمين القروض، مما ساعد في زيادة التملك السكني من 44% في 1940 إلى 69% في 2004، وخلال عام 1938 و1970 تم تأسيس عملاقي تمويل الرهن العقاري "فاني ماي" و"فريدي ماك"، مما خلق سوقًا ثانويًا للأوراق المالية المدعومة بالرهون (MBS)، ووصل حجم الديون العقارية إلى 12.8 تريليون دولار في 2025، أي 70% من إجمالي الديون الاستهلاكية. ومع ذلك، أدى الإفراط في الإقراض الفرعي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى فقاعة عقارية انفجرت عام 2008، حيث انخفضت أسعار المنازل بنسبة 30% في بعض المناطق، مما أدى إلى أزمة مالية عالمية، والسبب الرئيس في الأزمة المالية كان الإقراض غير المدعوم بالضمانات الكافية، مع ارتفاع نسبة الديون إلى الدخل إلى 200%، وغياب التنظيم الفعال للأوراق المالية المدعومة بالرهون. بعد الأزمة، أدخلت الولاياتالمتحدة إصلاحات مثل قانون دود-فرانك (2010) لتعزيز التنظيم، مما خفض معدلات التخلف عن السداد إلى 0.86% في 2025، وأدى إلى استقرار السوق مع ارتفاع الأسعار بنسبة 3% سنويًا، وعموماً، فقد أدى الرهن العقاري في الولاياتالمتحدة إلى نمو اقتصادي بنسبة 16% من الناتج المحلي الإجمالي، لكنه تسبب في ركود عند الانهيار، مما يبرز أهمية التنظيم. في الوقت الحالي، تعتزم الحكومة الأميركية طرح أسهم شركتي فاني ماي وفريدي ماك للاكتتاب العام الأولي هذا العام، في خطوة تمثل علامة فارقة في تاريخ عملاقي تمويل الرهن العقاري الخاضعين لسيطرة الحكومة منذ عام 2008، ومن الممكن أن تصل قيمة الشركتين مجتمعتين مع هذا الطرح إلى 500 مليار دولار، وستكون الصفقة تحولًا كبيرًا للشركتين اللتين تخضعان للوصاية الاتحادية منذ الأزمة المالية العالمية. أنشأ الكونغرس فاني وفريدي لدعم سوق الإسكان عبر ضمان تمويل الرهن العقاري بأسعار معقولة، غير أنهما انهارتا بفعل صدمات شديدة خلال الأزمة المالية، وقد تم إنقاذهما بأموال دافعي الضرائب، ورغم محاولات سابقة لإعادة الشركتين إلى القطاع الخاص، بما في ذلك خلال ولاية الرئيس دونالد ترمب الأولى، فإن هذه الجهود لم تكتسب الزخم الكافي. التجربة الصينية: الدور الحكومي والفقاعة العقارية في الصين، تسيطر الحكومة على سوق الرهن العقاري من خلال البنوك الحكومية وبرامج الإسكان الاجتماعي، وقد بدأ النظام الحديث في التسعينيات، مع نمو الديون العقارية إلى 30 تريليون يوان (4.2 تريليونات دولار) في 2024، مدعومًا بسياسات التحضر التي أدت إلى ارتفاع أسعار العقارات بنسبة 350% منذ 1998. تحدد الحكومة الصينية أسعار الفائدة وتدعم الإقراض من خلال "الثلاث خطوط حمراء" للحد من الديون، لكن الفقاعة انفجرت مع أزمة شركة التطوير العقاري الصينية إيفرغراند العملاقة، عام 2021، والتي بلغت أصولها 240 مليار دولار، مما أدى إلى انخفاض أسعار العقارات بنسبة 20% في بعض المدن وتباطؤ النمو الاقتصادي إلى 4% في 2024، وقد ساهم الرهن العقاري في نمو الاقتصاد الصيني، لكنه أدى إلى أزمة ديون، مما يظهر مخاطر الاعتماد الحكومي الزائد دون تنظيم السوق. التجربة البريطانية: التنظيم والتأثير على الأسعار في المملكة المتحدة، يعتمد سوق الرهن على بنوك مثل إتش إس بي سي، وباركليز، مع معدلات فائدة متوسطة 4.99% للرهون الثابتة لمدة عامين في 2025، وقد أدخلت الهيئة المالية (FCA) تنظيمات صارمة بعد أزمة 2008، مما خفض التخلف عن السداد إلى أقل من 1%، وزادت أسعار المنازل بنسبة 3.7% في 2025، ومع ذلك، أدى اِنسحاب المملكة المتحدة من الاتِحادِ الأُوروبِيِ أو البرِيكسِت إلى تقلبات، مع ارتفاع الأسعار بنسبة 0.8% في لندن، وقد ساعد الرهن في زيادة التملك إلى 65%، لكنه زاد من عدم التوازن الإقليمي، مما يبرز أهمية التنظيم الإقليمي. التجربة الألمانية: الاستقرار والمعدلات المنخفضة يعتمد النظام الألماني على اتفاقية توفير وبناء تمنح قروضًا بفائدة منخفضة (حوالي 1%) بعد فترة توفير، مما يضمن استقرارًا ماليًا، ومع معدلات فائدة 3-4%، ارتفعت أسعار المنازل بنسبة 5% في 2025، لكن التخلف عن السداد تقلص لأقل من 1% بفضل التنظيم الصارم، وقد ساهم الرهن العقاري في استقرار السوق، مع نمو اقتصادي بنسبة 2%، ويُعد نموذجًا للتوازن بين الوصول والمخاطر. التجربة الأسترالية: الإقراض الكامل والاستقرار في أستراليا، يُسمح بالإقراض الكامل مما يقلل التخلف إلى أقل من 1%، مع معدلات فائدة 6.72% في 2024، وقد ارتفعت القروض بنسبة 7.3% في 2025، مدعومة بتأمين الرهون المماثلة التي تقدمها مؤسسة كندا للرهن العقاري والإسكان CMHC، وهي مؤسسة تابعة للحكومة الكندية تهدف إلى مساعدة الكنديين على تملك المنازل، ويُمكّن هذا التأمين المشترين من شراء منزل بدفعة أولى لا تقل عن 5% من سعر المنزل، مما يسهل الحصول على قرض عقاري لأولئك الذين لا يستطيعون توفير دفعة أولى كبيرة، وقد أدى الرهن العقاري في أستراليا إلى نمو مستقر بنسبة 3% في الأسعار، مع مساهمة 16% في الناتج المحلي. التجربة الكندية: التأمين والمعدلات الثابتة يعتمد السوق الكندي على CMHC لتأمين القروض، مما يسمح بإقراض 95% من القيمة، مع معدلات ثابتة 6.7% في 2025، وقد بلغ الدين العقاري 2.3 تريليون دولار، لكن التخلف عن السداد تقلص 0.2%، وقد ساهم الرهن العقاري في 72% من التملك، لكنه زاد الديون، مما يتطلب إدارة مخاطر. سوق الرهن العقاري بالمملكة.. محرك رئيس للنمو والتنويع المالي في بداية شهر سبتمبر الحالي، شهدت السعودية إطلاق أول سوق لتوريق الديون العقارية، حيث نفّذت الشركة السعودية لإعادة التمويل العقاري، أول صفقة لها من هذا النوع بعد حصولها على موافقة تنظيمية لتجميع الأوراق وبيعها محلياً، في خطوة تهدف إلى تعزيز السيولة وتشجيع البنوك على زيادة الإقراض لدفع برنامج التحول الاقتصادي في المملكة. ويُشجّع وجود سوق نشطة لتوريق الديون العقارية السكنية البنوك السعودية على تحويل الأوراق المالية المدعومة بالتمويلات السكنية إلى الشركة السعودية لإعادة التمويل العقاري، مما يوفّر مساحة أكبر للإقراض الإضافي بهدف دفع النشاط الاقتصادي، وبحسب بيانات"بلومبرغ إنتليجنس"، فإنه يمكن للبنوك السعودية أن تنقل ما يصل إلى 48 مليار دولار من الرهون العقارية القديمة إلى الشركة بحلول عام 2030، ما يحرّر السيولة ويتيح توريق ما يقرب من 23 مليار دولار للمستثمرين. وفي تقريرها الأخير الصادر قبل أيام، ذكرت "ستاندرد آند بورز غلوبال"، أن الفرصة السوقية كبيرة، إذ تحتفظ البنوك السعودية حالياً بمحفظة رهون عقارية تُقدّر بنحو 180 مليار دولار، أي ما يعادل 23% من إجمالي القروض حتى نهاية عام 2024، ويأتي إطلاق سوق توريق الديون العقارية السكنية بالمملكة في الوقت الذي تسعى فيه السعودية لسد فجوات التمويل وجذب السيولة لدعم مساعي التنويع الاقتصادي، والتي تشمل كل شيء بدءاً من تعزيز تملّك المساكن وصولاً إلى التحول إلى مركز للذكاء الاصطناعي. كيف تستفيد السوق السعودية من التجارب العالمية؟ يمكن لسوق الرهن العقاري في المملكة الاستفادة من التجارب العالمية الرائدة، فمن الولاياتالمتحدة، يجب تجنب الإقراض الفرعي وتعزيز التنظيم، ومن الصين، يجب الحذر من الفقاعات العقارية، ومن بريطانياوألمانيا، يُفيد التنظيم الإقليمي، أما أسترالياوكندا فتوفران دروسًا في التأمين (مثل SRC)، والسويد في الإقراض الجماعي. توصيات ومقترحات 1. تعزيز السيولة: توسيع دور الشركة السعودية لإعادة التمويل العقاري (SRC)، كما في شركتي "فاني ماي وفريدي ماك" في الولاياتالمتحدة، وذلك بهدف رفع القروض إلى 20% من السوق بحلول 2030. 2. التنظيم الصارم: فرض اختبارات توترية مثل كندا، وحد أقصى 40 % لتجنب الأزمات، واختبار توتر الرهن العقاري في كندا هو اختبار يلزمك كمُقترض بإثبات قدرتك على تحمل أقساط الرهن العقاري بسعر فائدة أعلى من السعر الفعلي الذي ستدفعه، حيث يختبر المُقرضون قدرتك على سداد الدفعات عند سعر الفائدة الأعلى، الذي يكون إما سعر الفائدة الذي تفاوضت عليه + 2%، أو سعر الفائدة المرجعي للبنك المركزي الكندي (حالياً 5.25%)، أيهما أعلى، والهدف هو ضمان قدرتك على الاستمرار في سداد القرض في حالة ارتفاع أسعار الفائدة في المستقبل. 3. الإقراض الإسلامي المبتكر: من خلال تطوير MBS إسلامية، مستوحاة من ألمانيا، لجذب الاستثمار الأجنبي، ويعني الإقراض الإسلامي المبتكر تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية على المنتجات والخدمات المالية الحديثة، مثل التمويل الأصغر والتقنيات الرقمية، لتلبية الاحتياجات الاقتصادية المتطورة مع الالتزام بالقيم الإسلامية، مما يعزز الشمول المالي والتنمية المستدامة، ويشمل صيغ تمويل متنوعة مثل المرابحة والقرض الحسن. 4. الدعم الحكومي: خفض الإيداع إلى 5% كما في 2018، وزيادة الشراكات العامة الخاصة ل1.2 مليون وحدة سكنية. 5. التدريب والتوعية: تنفيذ برامج تعليمية وتوعوية للمقترضين، مستوحاة من أستراليا، بهدف تقليل التخلف عن السداد. والخلاصة، أن التجارب العالمية تُظهر أن الرهن العقاري يمكن أن يكون محركًا للنمو إذا تمت إدارته بحكمة، كما في حالتي ألمانياوكندا، أو يصبح كارثة إذا تم إهماله، كما في حالتي الولاياتالمتحدةوالصين، ونعتقد أن السعودية، مع رؤية 2030، لديها فرصة ذهبية للاستفادة من هذه الدروس لبناء سوق مستدام، يدعم التملك السكني ويقلل الاعتماد على النفط، كما أن التركيز على التنظيم والابتكار سيضمن نجاحًا طويل الأمد.