المتتبع لمسار العلاقة بين التنظير للإبداع وبين الإبداع نفسه لن يعوزه بالطبع إيجاد الشواهد الدالة على وجود تناغم من نوع ما بين دينامية الإبداع ودينامية الوعي بدوافعه وآلياته وأبعاده. وسيجد الباحثون في الكتابات النقدية لكو لردج وت. س. إليوت وأدونيس وغيرهم ما يؤكد على عدم التعارض بين الموهبة العالية والوعي المعرفي، وبين الطاقة الانفجارية للروح ومنهجية العقل المنظم. غير أن الشواهد التي يمكن العثور عليها في هذا السياق ستظل أقل بكثير من الشواهد المعاكسة التي تؤكد على الفوارق الواضحة بين حقلي الكتابة المتباينين في الطبيعة واللغة. فالمعرفة بالشيء لا تعني القدرة على اجتراحه، والبراعة في الحديث عن الحب لا تمنح شعورا بالحب أو ظفرا بتحقيقه، تماما، كما هو حال العملية الإبداعية التي تحتاج إلى قوة اللهب أكثر مما تحتاج إلى توصيف النار غير الممتلكة. تحضرني في هذه المناسبة تجربة الكاتب والناقد المصري الشهير عباس محمود العقاد، حيث يتسنى للقارئ أن يعثر في مؤلفاته الفكرية والنقدية على واحد من أكثر العارفين بمعنى الشعر ووظيفته، ومن أكثر الداعين إلى تحرير القصيدة من لواحق المباشرة والضجيج السياسي والتقليد النمطي للأسلاف، وهو القائل «أعطني شاعرا ينظم قصيدة تجعل المصريين يحبون الزهرة، وأنا أضمن لك بأنها قادرة على أن تبعث في مصر نهضة حقيقية». ومع ذلك، ورغم اتهامه لشوقي بالوقوع في فخ الأقدمين وبالعجز عن مقاربة روح الشعر، فإن ما كتبه العقاد من شعر لا يتجاوز النظم العادي والتأليف الخالي من الاضطرام. ثمة أيضا من قدموا للثقافة والإبداع خدمات جلى، وأسهموا في تأسيس الحركات الأدبية التجديدية، دون أن يستطيعوا انتزاع موقع الصدارة على صعيد النتاج الإبداعي. فمن يقرأ الأعمال الشعرية لأندريه بروتون سيجد أن هذه الأعمال لا ترقى بأي حال إلى مستوى أعمال بول إيلوار ولويس أراغون، وأن رائد السوريالية والمشرف على بيانها التأسيسي لم يكن شاعرها الأكبر والأكثر أهمية. كذلك هو حال يوسف الخال في مجلة «شعر» التي لم تكن لتصدر لولا جهوده المضنية ورعايته الأبوية وتطلعه العميق إلى تغيير الحساسية الشعرية العربية. على أن مبادرته الرائدة وثقافته الواسعة لم تمكناه على المستوى الإبداعي من احتلال الموقع المتقدم الذي احتله رفاقه في المجلة، أمثال: محمد الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج. وما ذلك لنقص في الوعي والمعرفة والرغبة، بل لنقص في النيران التي يتعذر امتلاكها.