ألكسندر بابادوبولو من أهم اختصاصيي الفن الاسلامي في العالم. وعالم الجمال الذي انطفأ اخيراً في باريس، وضع ابحاثاً مرجعية ودراسات ساهمت في تخليص هذا الفن من ركام الاحكام التعسفية ومن النظرة الاختزالية التي حاكها الاستشراق. لكن صاحب كتاب "الاسلام والفن الاسلامي"، بإغفاله الماهية التوحيدية التي قامت عليها الحضارة العربية، عاد فسقط في فخ النظرة الغربية. هنا استعراض سريع لمسيرته وفكره. بغياب عالم الجمال المعروف ألكسندر بابادوبولو الذي اختطفه الموت اخيراً في باريس وهو منهمك كعادته في العمل، خسر الفن العربي والاسلامي واحداً من اهم اختصاصييه العالميين، والمولعين بنورانية رسومه ومخطوطاته. يرجع الى هذا المعلم فضل تأسيس قسم "علم جمال الفن الاسلامي" ومركز الابحاث التابع له في جامعة السوربون الباريسية سنة 1975. وانطلاقاً من هذه الارضية الاكاديمية المرموقة، طبّق احدث المناهج في تحليل ودراسة وتأريخ تراث تشكيلي بصري وحرفي يمتد على اربعة عشر قرناً. وظل الراحل يشرف على الاطروحات الجامعية حتى يومه الاخير، اذ انه لم يتوقف مع بلوغه سن التقاعد القانونية. عرف عن بابادوبولو التشدد بحيث كانت الدراسة تحت اشرافه تتطلب سنوات عدة، ويحتل تلامذته اليوم مراكز المسؤولية في جامعات بلادهم: سمير تريكي في "معهد الفنون التكنولوجية" في تونس، سوبرنا الذي عاد الى جامعة جاكرتا في اندونيسيا، وعزالدين حاديوي الذي يدرّس في جامعات المغرب، كما تسلم حسين حليمي ادارة الفنون الجميلة في جامعة الفارابي في طهران، وكذلك الأمر مع السيد والشيخ عطية وزوجته السوريين. وإذا كان بعض هؤلاء توصل الى نتائج مناقضة لما تنطوي عليه اجتهادات المعلّم وأبحاثه ونظرياته وبعض أفكاره، فلعلهم استفادوا من منهجه العلمي المقارن في تحليل الشكل والخط واللون. اما كتاب ألكسندر بابادوبولو "الاسلام والفن الاسلامي" "مازينود"، 1976 للطبعة الفرنسية، فهو من أبرز المراجع في هذا المجال، ومن الكتب الموسوعية التي لا تكتفي بالتوجه الى اهل الاختصاص. وقد تجاوزت شهرته الهالة المحيطة بمؤلفه، وترجم الى لغات عدة منها الانكليزية والايطالية والاسبانية... والعجيب في الامر ان مشاريع ترجمته الى العربية كانت تبوء دوماً بالفشل، اذ سرعان ما تُحاصر بالعراقيل، ولعل المستفيدين من هذا الاخفاق هم أولئك المنظّرون والنقاد العرب الذين اقتطعوا من نصوص الكتاب ما استطاعوا ونسبوه الى انفسهم، مستغلين غياب قوانين حقوق التأليف والنشر. وبلغ الجحود ببعض هؤلاء ان تعرضوا للكتاب - بعد نهبه - بالتجريح والتشويه، حتى طال أذاهم كل من ارتاد بابادوبولو ودرس تحت إشرافه. هكذا مات عاشق المنمنمات العربية والاسلامية ولما يترجم كتابه الى لغة الضاد. وما تزال الاستفادة من هذا المرجع ممنوعة على القراء العرب من ذواقة ومتخصصين وباحثين، في لغتهم، اذا استثنينا ملخص الكتاب الذي يقع في ستين صفحة والذي أنجزه المؤلف نفسه، وتبرع بتعريبه مدير "مركز الفن الحي" في تونس، الناقد والشاعر علي اللواتي، بلغة بالغة الدقة والحساسية. تلاقح الشرق والغرب ولد بابادوبولو في مدينة كييف سنة 1916، من أب يوناني مهاجر وأم روسية. وهاجر مع عائلته الى استانبول إثر الثورة البولشفية، ليستقر سنة 1927 في القاهرة حيث سيلتقي زوجته "تامارا" المولودة في القاهرة، ويتابع دراسته الفلسفية في الجماعات الفرنسية. ومنذ بداية السبعينات استقر في باريس، بعد انجازه دراسة دكتوراه عن المنمنمات الاسلامية، تعتبر حتى اليوم من أغنى وأعمق المراجع المتوافرة في هذا المجال ويبدو ان احدى الجامعات السورية جادة في تعريب الاطروحة. هكذا أخذ بابادوبولو في تدريس مادة علم جمال الفن الاسلامي في الجامعات الفرنسية، وواصل نشر دراساته في الدوريات المختصة. نشأة بابادوبولو في حنايا القاهرة ومتاحفها، واشرافه في مصر على مجلة "القاهرة" التي كانت تصدر بالفرنسية وتعنى بأعلام الأدب المصري، اضافة الى اصله اليوناني - الروسي وثقافته الفلسفية الفرنسية، تعطي فكرة عن درجة الغنى والتنوع والخصوبة في تركيبته الثقافية وتشكل وعيه وذوقه. ويمكننا ان نعتبر ان قطبين اساسيين يتنازعان فكره: المنطق العقلاني المستمد من الفلسفة اليونانية ثم الديكارتية الفرنسية، وحنينه الى الشرق من خلال نشأته المصرية وجذوره البعيدة. هكذا استهواه الفن الاسلامي وما يعكسه من علاقة بالماوراء، لكنه درس أدق تفاصيل هذا الفن بمنهجية عقلانية لا تقبل مجالاً للشك. أما اطروحته، فتمحورت حول نظرية جديدة تقلب الافكار السائدة، اذ اثبت ان الأولوية في هذا الفن ليست للعمارة كما هو شائع وإنما ل "الغرافيزم" وفن المخطوطات بما فيه الرسوم والزخرفات والمنمنمات. ويرجع ذلك برأيه الى سلطة الكلمة والحرف وهالتهما القدسية. كما سنعثر على بصمات الشرق العربي والاسلامي جلية في حساسيته التشكيلية، فقد كان مصوراً ومنظراً في آن، تعتمد تكويناته على النواظم الايقاعية التنزيهية نفسها التي تعتمدها تصاميم السجاجيد الملونة وتعامداتها الشطرنجية. بمعنى ان تصويره يفضح عشقه للتراث العربي والاسلامي، اكثر من منهجه العلمي. ولعل من الواجب الاشارة الى ان هذا المنهج الغربي نفسه، هو الذي قاده الى تخليص الفن الاسلامي من ركام الاحكام التعسفية التي حاكها المستشرقون. ذلك انه كان يدعو في منهجه، الى الاقتصار في التحليل واستنباط النتائج على مراقبة تطور الطراز في الشكل واللون والخط، وإهمال الوثيقة التاريخية لأنها قابلة للتزوير السياسي. وتشير واحدة من اكتشافاته المثيرة الى شيوع قانون الحلزون الجبري في تنظيم الفراغ، وتكوين الاشخاص وحركتهم ومواقع الوجوه والأيدي... وتخضع الى هذا القانون، برأيه، غالبية المنمنمات منذ عهد الواسطي وحتى محمد الراسم مروراً بيهزاد وغيره، فلا يكاد الباحث يقع على ما يناقض احصاءاته وقياساته الجمالية وقوانينه. وتجدر الاشارة ايضاً الى ان منهجه الصلب نفسه كثيراً ما كان يلتوي محاولاً اثبات المرجعية الاحادية للفن الاسلامي من خلال تناسله الموهوم من الفن البيزنطي والروماني ليصب في النبع اليوناني. وهنا نعثر على وهن نظريته التي لا تخلو بدورها من الصيغة الاستشراقية، وتقاليد معاصريه، من مثال إيكوشار وكالفان الذين حاولوا نسب خصائص الفن العربي الاسلامي، بشكل قسري، الى هذه السلسلة المتوسطية. أما خلاف الاختصاصيين والباحثين العرب مع ألكسندر بابادوبولو، فتفجر خلال مناقشات مؤتمر "المحراب وأبعاده الجمالية والروحية" الذي دعا اليه سنة 1980. توصل يومها عبر منهجه العلمي الى أطروحة جريئة أثارت النقاش ولاقت اعتراضاً جماعياً لأنها تخالف الجوهر التنزيهي الذي يسيطر على شتى أنماط الفن الاسلامي. وبالتالي فإن بابادوبولو لم يسعفه المنهج الغربي الديكتاتوري في التوصل الى الماهية التوحيدية للفن الاسلامي، هذه الماهية التي تشكل بداهة لا تقبل اية تسوية روحية. وعلى الرغم من حدة الجدل يومها، كان هذا الاختلاف انعكاساً للحيوية الذهنية التي أثارها المؤتمر المذكور، خصوصاً وانه كان فرصة لعرض نماذج غير معروفة للمحراب، وتحليلها هندسياً من قبل المؤتمرين. ولكن خلاف العلماء العرب، المبرر والشرعي، مع بعض اجتهادات بابادوبولو ونتائج وخلاصات مختبره العلمي، لم يحوّل الاهتمام عن وعي هؤلاء ومدى تقصيرهم في دراسة تراثهم البصري. بل ان المؤتمر جاء فرصة للتعرف الى علماء عرب - من أمثال بوريبة وعبدالوافي والدولالتي وغيرهم - يملكون ثراء معرفياً يضاهي ما توصل اليه زملاؤهم الغربيون. أصاب بابادوبولو على مستوى الشكل والمنهج اذاً، لكنه تعثّر عند البعد الروحي. فهو استطاع بمنهجه فتح نافذة الحقيقة على زملائه المستشرقين وعلى البحاثة العرب على السواء. ولن يدهشنا ان نقرأ في كتابه الشهير: "من أجل ان نحب ونتحسس قيم الفن الاسلامي، علينا ان نتدرب على محبة الفن المعاصر". فهو يشير بشكل صريح، الى التأثيرات والبصمات التي تركها التراث العربي - الاسلامي على الفن الغربي المعاصر بشتى اتجاهاته. واذا كان بابادوبولو لم يتخلص من بعض الافكار الثابتة التي ترزح تحت عبئها النظرة الاستشراقية الى الفن العربي الاسلامي، فقد بدا في الجزء الاكبر من مؤلفاته وأبحاثه حليفاً لهذه الحضارة وأميناً لروحيتها، ومفتوناً بكنوزها وعطاءاتها.