دراسة سعودية تكشف تنوعًا غير مسبوق للثدييات الكبيرة في الجزيرة العربية خلال العصور الماضية    تقدم أحدث النماذج والتطبيقات.. وتطور الحلول.. ولي العهد يطلق "هيوماين" رائداً عالمياً في الذكاء الاصطناعي    الاتفاق الأمريكي الصيني يصعد بالأسواق    تمديد إقامة العمالة الموسمية في الحج إلى نهاية المحرم    مودي يؤكد وقف العمليات العسكرية.. الهند تتقدم نحو حل سياسي شرط المعالجة الأمنية    "جوجل" تُطلق تطبيقًا لفك تشفير النصوص المعقدة    نصف مليون شخص معرضون للموت جوعاً.. تحذير من كارثة إنسانية وشيكة في غزة    هنأ الأهلي والبطل القرشي.. ولي العهد يستقبل أبطال نخبة آسيا    في ختام الجولة 31 من " روشن".. الهلال يعبر العروبة.. والنصر يدك شباك الأخدود ب 9 تاريخية    الهلال يهزم النصر.. ويتوج بدوري الطائرة للمرة ال20    القبض على 4 أشخاص لترويجهم مواد مخدرة    العدل: إصدار132 ألف وثيقة صلح في عام 2024    إقرار المبادئ التوجيهية للاستثمارات الخضراء.. مجلس الوزراء: الموافقة على تنظيم هيئة الطيران المدني    يقدِّم تجربة متكاملة في مجموعة من المحطات التفاعلية.. مجمع الملك سلمان يفتتح معرضًا لإبراز جماليات «العربية»    موهوبو السعودية مستعدون للتألق في "آيسف 2025"    المغطّر    100 مبادرة إثرائية توعوية بالمسجد النبوي.. 5 مسارات ذكية لتعزيز التجربة الرقمية لضيوف الرحمن    "الغذاء والدواء": ثلاثة أنواع من البكتيريا تهدد السلامة    حكاية طفل الأنابيب (4)    غرامة 20,000 ريال للحج بلا تصريح    الدفاع المدني: لا تستخدموا المصاعد أثناء الحرائق    خطوة واحدة يا عميد    النجمة يسطع في سماء «روشن» وهبوط العين    الشبابيون: لن نبالغ في الفرحة    محمية الإمام عبدالعزيز بن محمد تزيل أكثر من 719 ألف طن من الأنقاض    زيارة ترمب للمملكة تجدد التأكيد على عمق العلاقات السعودية الأمريكية وشراكة متعددة الأبعاد    الصين من النسخ المقلد إلى صناعة المتفوق    70 % من مرضى الربو يعانون من حساسية الأنف    عبدالعزيز بن سعود يرعى تخريج 1935 طالباً في كلية الملك فهد الأمنية    النفط يرتفع مع تخفيف حدة النزاع "التجاري العالمي"    تعليم المدينة ينفذ إجراءات التوظيف التعاقدي ل1003 مرشحين    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة ينظم المؤتمر الأول للأمراض الجلدية    «تجارة» الحدود الشمالية تنفذ 333 جولة رقابية    المملكة.. حضور بلا ضجيج    «المتحف الوطني» يحتفي باليوم العالمي للمتاحف    الحرف اليدوية.. محاكاة الأجداد    مكتبة الملك فهد الوطنية تطلق خدماتها عبر «توكلنا»    نظير إسهاماته في تنمية الحركة الأولمبية .. المجلس الأولمبي الآسيوي يمنح"ابن جلوي"وسام الاستحقاق    «الشؤون الإسلامية» بجازان تحقق 74 ألف ساعة تطوعية    غزة: ارتفاع شهداء العمل الإنساني والطواقم الطبية إلى 1400 شهيد    خلال زيارته للمملكة.. هل يفعلها ترمب؟    فهد بن سلطان يستعرض جهود «الكهرباء» في تبوك    ضمن مبادرة"مباراة النجوم".. القادسية يستضيف 30 شخصاً من ذوي الإعاقة    "الشريك الأدبي" في جازان: حوار مفتوح بين الكلمة والمكان    طلب إفلاس كل 6 ساعات عبر ناجز    استقرار معدلات التضخم عند 2% بدول الخليج    الشؤون الدينية تطلق خطتها التشغيلية لموسم الحج    حماية مسارات الهجرة بمحمية الملك    مجلس الوزراء: نتطلع أن تعزز زيارة الرئيس ترمب التعاون والشراكة    ٦٠ مراقبا ومراقبه في ورشة عمل مشتركة بين الأمانة وهيئة الغذاء    حفل ختام وحدة الثقافة والفنون بكلية الآداب في جامعة الإمام عبدالرحمن    محافظ الطائف يكرّم الجهات المشاركة في برامج وفعاليات أسبوع المرور    وداعًا يا أمير التنمية والإزدهار    حاجة ماليزية تعبر عن سعادتها بالقدوم لأداء فريضة الحج    انطلق بمشاركة 100 كادر عربي وأوربي.. أمين الرياض: «منتدى المدن» يعزز جودة الحياة ويقدم حلولاً مشتركة للتحديات    بتنظيم من وزارة الشؤون الإسلامية.. اختتام تصفيات أكبر مسابقة قرآنية دولية في البلقان    المملكة تواصل ريادتها الطبية والإنسانية    أمير منطقة تبوك يرعى بعد غد حفل تخريج متدربي ومتدربات المنشات التدريبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عقيدة عسكرية جديدة في فرنسا والشرق الأوسط في طليعة مصادر الخطر
نشر في الحياة يوم 14 - 03 - 1994

يقدم الشرق الأوسط عن نفسه صورة المنطقة الساعية نحو السلام والمتقدمة نحوه. يبدو احياناً، ان حرب الخليج هي آخر الحروب الكبيرة التي شهدها، وانه، بعدها، قرر وضع السلاح جانباً وعدم التحول الى مصدر لتهديد الأمن والاستقرار في العالم. يكاد الشرق الأوسط يختصر في صورتين: افتتاح مؤتمر مدريد والمصافحة الشهيرة بين اسحق رابين وياسر عرفات في واشنطن. صحيح ان العنف موجود في الصومال وجنوب السودان والجزائر ومصر وشمال العراق وفي الأرض الفلسطينية المحتلة وجنوب لبنان، غير انه نوع من العنف الذي لا يمكنه ان يرقى الى حرب وأزمة يمكن لها ان تستدرج تدخل قوى اجنبية.
المفاوضات الثنائية بين العرب واسرائيل مستمرة في واشنطن. انقطاعها نوع من الاستراحة لا يقنع أحداً بأن المواجهة على الأبواب. "السلام"، كما قال الرئيس السوري حافظ الأسد بعد القمة التي جمعته الى الرئيس الاميركي بيل كلينتون، "قرار استراتيجي". المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية والمفاوضات المتعددة الأطراف متنقلة بين عواصم العالم ومدنه، من طوكيو، الى اوتاوا، الى باريس فلندن فروما فتونس، الخ... بحيث، لم يبق مكان فوق الكرة الأرضية إلا وأصابه "رذاذ" السلام العربي - الاسرائيلي.
ريح السلام تغلب ريح الحرب، ومع ذلك فإن الشرق الأوسط هو في خط المرأى الفرنسي من الآن وحتى 2010 - 2015. تؤدي باريس دورها في رقعة التسويات في "الجناح الجنوبي" من حدودها. وتراهن على النجاح، وتنافس لكي تأخذ نصيبها الاقتصادي. لكنها مع ذلك، ورغماً عنها، تعد نفسها للعقدين القادمين، وكأن الشرق الأوسط مصدر تهديد لمصالحها الاستراتيجية، تهديد قد يوجب عليها التدخل العسكري.
يرد ذلك، بوضوح، في العقيدة الدفاعية الفرنسية الجديدة التي كشفت السلطات التنفيذية النقاب عنها. ناقشها حوالي مئة خبير عسكري ومدني من الاتجاهات كلها والقطاعات العسكرية والمدنية كلها ورفعت الى المسؤولين حيث وافق عليها كل من رئيسي الجمهورية والحكومة ووزير الدفاع قبل ان تطرح في "كتاب أبيض" على النقاش الوطني العام بحيث يمكن لأي مواطن الاطلاع على ما تعده دولته لحمايته من مخاطر محتملة.
وتأسيساً على هذه العقيدة سيناقش البرلمان، قريباً، خطة "البرمجة العسكرية" للفترة الممتدة من العام 1995 الى العام الفين. ويعني ذلك ان الهيئة التشريعية ستحسم أموراً من نوع: تشكيل الجيش وعدده، تقسيم الوحدات، الاسلحة الواجب اهمالها وتلك الواجب تطويرها، وسائل النقل والاتصال، اسلوب جمع المعلومات وأدواته، التوزيع الجغرافي للقوات، العلاقة مع حلف شمال الأطلسي ومع اتحاد اوروبا الغربية، التنسيق الدفاعي مع المانيا ومصيره، الترسانة النووية واحتمال العودة الى اجراء التجارب، الخ... اي، باختصار، كل ما له علاقة بالأمن الوطني.
تقدم هذه العقيدة، في الغالب، التصور الفعلي الذي تملكه دولة جديرة بهذا الاسم عن العالم واحتمالاته. يمكن لهذا التصور ان يكون مخطئاً وألا يصيب في تقديراته، غير انه لا يمكنه ان يحمل بعداً ايديولوجياً مقصوداً هدفه الخداع والتضليل. العقيدة الدفاعية هي خير مكان لدراسة استراتيجية دولة كبرى وللتعرف على ما استقر عليه رأي نخبتها الحاكمة في أحوال العالم وتطوراته. والمفيد فيها انها لا تتوقف عند الحاضر فقط بل تقدم تقديرها المستقبلي. إنها مضطرة الى ذلك. لماذا؟ ان انتاج سلاح جديد متطور يلزمه وقت يمتد بين عقد وعقد ونصف. يعني ذلك انه سلاح نصوغه اليوم من أجل ان يخدم بعد غد. ننطلق مما نعرفه عن العالم الراهن لوضع خطط، وتنفيذها، ذات صلة بالعالم كما سيكون عليه بعد فترة قد تمتد لربع قرن. قد يبدو ذلك صعباً في ظل التحولات الدراماتيكية والسريعة التي تتدافع، غير ان الصعوبة لا تلغي الضرورة وإلا فإن النتيجة ستكون مواجهة مخاطر الغد بأسلحة الأمس وهذا مقتل خطير. "العقيدة الدفاعية" هي أرقى أنواع "العلم الخرافي" الذي يستند الى أكبر كمية ممكنة من المعطيات من اجل اعادة تشكيلها بعد تطورات طرأت عليها. ليس تنجيماً ولا ضرباً في الرمل بل ممارسة ذهنية رفيعة المستوى ورهانات مصيرية طالما ان القضية المطروحة هي أمن الوطن والمواطنين، حياتهم، مصالحهم، مستقبلهم، وعلاقاتهم بالعالم.
التكيف مع المتغيرات
ثمة دول تلجأ الى هذا "التمرين" في فترات متقاربة بريطانيا والمانيا مثلاً. وقد سبقت الولايات المتحدة الدول الغربية كلها الى تكييف عقيدتها الدفاعية الجديدة مع التغييرات الدولية التي اعقبت انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء حلف وارسو. ويأتي في هذا السياق الاتفاق مع روسيا على الازالة التدريجية للصواريخ النووية العابرة للقارات والمتوسطة المدى وكذلك الاهتمام الفائق بمراقبة انتشار اسلحة الدمار الشامل ومكافحته. وقد استقر الوضع في البنتاغون على الفكرة العامة التالية: الإبقاء على قوة الردع الاستراتيجية، وإعادة تشكيل الجيش واسلحته بحيث يبقى قادراً على إلحاق الهزيمة، وفي آن واحد، بقوتين اقليميتين متوسطتي الحجم العراق وكوريا مثلاً. وقد أرفق ذلك بحسم قضية الاهتمام بالتطوير التكنولوجي والاسلحة الذكية والقدرات الجديدة على النقل الجوي والبحري. واذا كان الميل هو الى انقاص عدد القوات الاميركية وتخفيض التواجد في أوروبا وإعادة الانتشار في العالم والمضي في سياسة التقشف فإن التعويض هو في زيادة الاتكال على "العلم" وتوظيفه في وسائط الحرب الجديدة من اجل إنقاص الخسائر البشرية قدر الامكان.
المراجعة الاميركية تتحول بسرعة، وهذا طبيعي، الى مراجعة أطلسية عامة. ولعل هذا ما يعطي لپ"العقيدة الدفاعية الفرنسية" نكهة خاصة مستمدة من خصوصية الموقع الفرنسي سواء في صلته مع حلف شمال الأطلسي أم لأسباب اخرى.
العقيدة الدفاعية الفرنسية
تعود العقيدة الدفاعية المعمول بها في فرنسا الى العام 1972، أي الى أيام الحرب الباردة والاستقطاب الدولي. كانت الأمور خطيرة جداً وسهلة جداً: عدو واحد يهدد بالفناء النووي. كل ما عدا ذلك تفاصيل. فرنسا جزء من المنظومة الغربية في وجه المعسكر الاشتراكي، غير انها مستقلة بمعنيين: الأول انها ليست جزءاً من القيادة المندمجة لحلف شمال الأطلسي، فلا قواعد "أجنبية" فوق أرضها وهي التي تملك حق التصرف بالسلاح النووي. ثانياً: تملك حرية حركة في بعض مناطق العالم وبشكل خاص في افريقيا الفرنكوفونية وإلى حد ما في الشرق الأوسط العراق. اما اليوم فقد انقلب العالم وتغير جذرياً. والسؤال هو، طبعاً، اي عقيدة دفاعية تتلاءم مع المعطى الاستراتيجي الجديد واحتمالات تطوره؟
الظروف الدولية تقضي التغيير. غير ان فرنسا محكومة بتعايش بين رئيس اشتراكي يعطيه الدستور صلاحيات واسعة في مجالي الخارجية والدفاع بصفته المسؤول الأخير عن الزر النووي وحكومة يمينية. أطلسية فرنسوا ميتران لا غبار عليها، وان كان يتحدث منذ سنوات بلهجة شبه ديغولية. لقد سبق له ان عارض السلاح النووي الفرنسي قبل ان يراجع موقفه ويلتحق بالنزعة الاستقلالية التي مثلها "الجنرال". يوفر هذا التعايش أرضية تفرض انتاج "عقيدة دفاعية" هي أقرب الى "الاجماع الوطني" والى ما هو مشترك بين معظم الفرنسيين. يعني ذلك ان الوثيقة، أهم من أي دراسة أو استقصاء للرأي العام، تقدم صورة دقيقة عن وعي النخبة الفرنسية لمستقبل العالم وموقعها ضمنه ودورها فيه.
تنقسم الوثيقة الخاصة بپ"عقيدة الدفاع" الى ثلاثة أقسام رئيسية. يتحدث الأول عن الاطار الاستراتيجي العام، والثاني عن السيناريوهات المتوقعة في المستقبل والتركيبة العسكرية الملائمة لها، والاخير عن الموارد المالية المطلوبة من اجل تمويل الانفاق والابحاث العلمية المتعلقة بالشؤون العسكرية.
الملاحظة الأولى حول الاطار الاستراتيجي تتعلق، طبعاً، بزوال "القطبية الثنائية" وهو الأمر الذي تعرفه فرنسا بصفته زوال أي تهديد لها من على حدودها. الخلاصة المنطقية من انهيار المعسكر الاشتراكي هي ان فرنسا تعيش، ولأول مرة منذ عقود، بمعزل عن أي خطر يهددها طالما ان المصالحة مع المانيا استقرت. وتلاحظ "العقيدة" ان الولايات المتحدة استنتجت من التطورات العالمية الجديدة ما دفع بها نحو تأمين الاسس الداخلية لأمنها الازدهار الاقتصادي أولاً وان هذا سيتجاوز اجراءات الادارة الديموقراطية الحالية ليؤثر على أي حكم أميركي في المستقبل المنظور. اذا كان "الخطر" السوفياتي زال والحماية الاميركية متراجعة فإن القوى الوسطى تبحث عن أدوار جديدة لنفسها. اليابان والمانيا تلعبان دوراً متزايداً في شؤون العالم، وتسعيان الى تطوير قدراتهما العسكرية. اما الصين فتبقى نوعاً من السر المغلق. إنها "مصدر تساؤلات" فحسب، بمعنى أنها لو كانت معادية فإنها ليست خطيرة فضلاً عن ان نموها الاقتصادي المذهل يحول دون قطع العلاقات معها. ثمة انقسام جديد يتعزز هو انقسام شمال - جنوب. وهنا، يقول الفرنسيون، ان الجنوب متعدد جداً وان الانقسام الفعلي ثلاثي لا ثنائي: مناطق غنية وعازلة وفقيرة. التخلف هو، اذاً، مصدر قوة يعبر عن نفسه في مظاهر عديدة منها الحروب ومنها الارهاب أو الجريمة المنظمة، أو السعي الى امتلاك اسلحة متطورة. وفي انتظار تحول هذا الانقسام الى "دينامي" أي متحرك وفعال فإن الاضطرابات والحروب المؤثرة على فرنسا ستكون في وسط أوروبا وشرقها.
تميز العقيدة الدفاعية "بين المصالح الحيوية والمصالح الاستراتيجية. الأولى هي لكل ما يتعلق بوحدة التراب الوطني وحريته والسيادة عليه وعلى شبكة المواصلات الخاصة به. الثانية هي المصالح الاقتصادية البعيدة وحرية التجارة والاتصال وأمن الحلفاء. وتؤكد الوثيقة انه من غير الجائز اعلان الفرق مسبقاً بين "الحيوي" و"الاستراتيجي" من اجل الاستمرار في امتلاك حرية المبادرة وتوسيع هامش الامان حيال خصوم محتملين. وعلى هذا الاساس ثمة ضرورة في إبقاء الغموض قائماً حول موقع الاستقرار والسلم فوق القارة الاوروبية وفي المناطق التي تحدها شرقاً وجنوباً. واذا كان واضحاً ان فرنسا ستدخل حرباً في حال جرى المس بمصالحها الحيوية التراب الوطني فإنه ليس واضحاً اين تقع العتبة التي تحتم دخولها حرباً في حال تم تجاوزها. لا يلغي هذا الالتباس التركيز المتكرر على "الأهمية الاستراتيجية الخاصة لحوض المتوسط والشرق الأوسط". يبقى "حلف شمال الأطلسي" الأداة الأمنية الرئيسية للدفاع عن الغرب عموماً وعن فرنسا ضمنه. ولكن بما ان القرار الاميركي بتخفيف الوجود فوق "القارة القديمة" لا رجعة عنه فإن باريس تضع لنفسها ثلاثة أهداف كبرى:
1- تأكيد البعد الأوروبي للمنظومة الدفاعية. وهذا البعد سيكون باستمرار أرقى من مجرد تحالفات مؤقتة بين دولتين أوروبيتين أو أكثر وأدنى من وحدة عسكرية مندمجة تماماً.
2- تدعيم الروابط عبر الأطلسي، وذلك من أجل الابقاء على الالتزام الاميركي بالامن الأوروبي.
3- تجنب انبعاث احلاف عسكرية متجابهة مما يعني السعي الى ايجاد صيغة علاقات مع روسيا لاتستثنيها من الترتيبات المستجدة ولا تمنحها حق النقض على تطوير "اتحاد أوروبا الغربية" أو تحسين علاقات فرنسا في الحلف الأطلسي وصولاً الى حد المشاركة معه في عمليات محدودة من نوع ما يجري حالياً في البوسنة.
وفي هذه الأحوال كلها سيكون الاصرار الفرنسي كاملاً على الاحتفاظ بكامل قدرة الردع المتشكلة من الترسانة النووية وعلى ان تتطور الشخصية الأمنية الاوروبية بالتكامل مع الأطلسي وليس بديلاً عنه.
سيناريوهات التدخل
تعتبر الوثيقة في قسمها الثاني ان انتهاء "الحرب الباردة" أدخل تنويعاً على مصادر التهديدات. وهي تقترح، شرحاً لذلك، تقديراً يفترض ان فرنسا ستكون مواجهة بستة سيناريوهات محتملة.
أولاً- نزاع اقليمي لا يهدد المصالح الحيوية. من الممكن اندلاع نزاع يهدد المصالح الاستراتيجية بشكل أو بآخر. وهنا يمكن لفرنسا ان تتدخل في اطار قوات دولية أو عبر الامم المتحدة من اجل "إعادة الاستقرار والامن وتثبيت الحق". نموذج حرب الخليج. مصدر التهديد دولة أو مجموعة دول تملك قوات تقليدية موازية لما يمكن حشده غربياً غير انها لا تملك سلاحاً نووياً. ويمكن لهذا التهديد ان يطال طرف التموين أو دول تربطها معاهدات دفاع مع فرنسا. في حال ورد هذا الاحتمال فإن الرد عليه هو "مواجهة عالية الكثافة". انه احتمال وارد جداً على المديين القصير والمتوسط والشرق الأوسط هو احد مسارحه الممكنة.
ثانياً- نزاع اقليمي يمكنه ان يهدد المصالح الحيوية. ثمة احتمال في العشرين سنة المقبلة ان يتهدد الأمن الاوروبي بنزاع تتدخل فيه قوة نووية. قد تقود هذه التطورات الى تهديد المصالح الحيوية الفرنسية. وتهديد الأمن الأوروبي، بهذا المعنى، ممكن فوق القارة، كما أنه وارد في حوض المتوسط وفي الشرقين الأوسط والأدنى. إنه خطر وارد في المدى المتوسط وقد يصبح وارداً جداً عند منعطف القرن. الحل في هذه الحال: الردع النووي، استخدام التفوق التكنولوجي، رفض الحرب التقليدية المديدة.
ثالثاً- تهديد وحدة التراب الوطني في مقاطعات ما وراء البحار. هنا يفترض بفرنسا ان تتصرف ولو منفردة وبغض النظر عن الضغوط الدولية. لذلك يجب امتلاك الوسائل الكافية والمتنوعة والجاهزة لنقل القوات. هذا الاحتمال ضعيف حالياً ولكن يمكن له ان يزيد مع مرور الزمن.
رابعاً- تطبيق معاهدات الدفاع الثنائية. سيكون على فرنسا ان تتدخل لقطع الطرق على نزاعات اقليمية غير عالية التوتر في افريقيا بشكل خاص. تحتفظ فرنسا لنفسها بحق التدخل منفردة وبشكل متلائم مع الوضع. هذا الاحتمال عال جداً ويمكنه ان يحصل في أي وقت. لا يشكل خطراً كبيراً غير انه يجب امتلاك قدرة للتدخل في أكثر من نزاع في وقت واحد.
خامساً- عمليات في خدمة السلام والحق الدولي. اذا كان الشرق الأوسط هو مسرح لعمليات من هذا النوع فإن القيام بها وارد ومحتمل في أوروبا وافريقيا والشرق الأقصى وحتى اميركا اللاتينية، لا بل ان هذا ما يحصل هذه الأيام: كمبوديا، يوغوسلافيا، الصومال، شمال العراق... لا تشكل هذه العمليات رداً على أي تهديد لفرنسا غير انها مضطرة لخوضها ولتوفير الامكانات التي تسمح لها بأن تلبي نداءات في هذا المجال.
سادساً- عودة تهديد كبير ضد أوروبا الغربية. يأخذ هذا السيناريو في الاعتبار احتمال انبعاث خطر كبير في العشرين سنة القادمة. قد تكون دولة مصدر هذا الخطر أو تحالف من دول عدة تملك اسلحة نووية وقوات تقليدية كبيرة وطموحات الى الهيمنة. هذا الاحتمال غير واقعي حالياً وهو قليل الورود في المستقبل المنظور. غير ان الحكمة تقضي عدم اسقاطه لأنه يمثل "خطراً قاتلاً". ان استراتيجية وقاية حازمة تلغي هذا الخطر. اما في حال الفشل فإن الردع النووي "هو الحل. اي امتلاك القوة التي تؤكد للعدو ان الخسائر التي سيتكبدها أكبر من أي ربح يمكن ان يجنيه ثمرة عدوانه. وبما ان تهديداً من هذا النوع لا يظهر فجأة فإن تدريجيته توفر الوقت الكافي للتأقلم مع بروزه.
ليست هذه الاحتمالات حصرية ولا معزولة عن بعضها. ويفترض بالتخطيط العسكري ان يأخذ في الاعتبار تدخل اثنين منها أو ثلاثة باستثناء السيناريو السادس مما يقود الى خوض غير مواجهة: نزاع اقليمي " الدفاع عن أرض وراء البحار، أو تطبيق معاهدة ثنائية " المشاركة في قوات سلام، الخ... ويقود هذا التخطيط الى امتلاك طاقات وقدرات توقع وقيادة ونقل... ان كلمات السر هي: الاستباق، السرعة في الانتقال، الاسلحة الملائمة، الاحتفاظ بقوات تقليدية مستعدة للتعاطي مع حروب غير عالية التوتر شرط ان تكون هذه القوات عالية الكفاءة وقادرة على استخدام آخر "الصرعات" التكنولوجية. وعند التطرق الى ما يعنيه ذلك على القوات البحرية والبرية والجوية فإن القاسم المشترك بينها هو التركيز على الانتشار، ونقل القوات "لأن مصادر التهديد في المعادلة الدولية الحالية تأتي، كما يقول وزير الدفاع الفرنسي فرنسوا ليوتار، "من بعيد". وفي أربعة سيناريوهات من أصل ستة، من "الشرق الأوسط".
وهنا المفارقة، ففي القسم المخصص للموارد يتضح أمران: الأول ان فرنسا لم تزل بعيدة عن ان تقبض "عائدات السلام" طالما ان ميزانية الدفاع قياساً بالناتج الوطني الخالص تبقى على حالها. الثاني ان "امتلاك اسواق خارجية هو شرط ضروري ولا غنى عنه لتطوير الاسلحة الجديدة التي تدعو العقيدة الدفاعية الى اعتمادها". ومن يقول "أسواق جديدة" يرد الى ذهنه أسواق الشرق الأوسط فضلاً عن تلك المزدهرة في آسيا التي يفترض فيها تمويل القدرات المستحدثة لجيش فرنسي سيتدخل فيها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.