في إحدى سفراتي إلى كوالالمبور، لفت انتباهي سائق ماليزي بسيط وقد زيّن سيارته بعلم بلاده احتفالًا بيومهم الوطني. لم يكن ذلك مجرد زينة، بل صورة صادقة لفرح مواطن يشارك وطنه احتفاله. وقتها، تساءلت: كيف للقيم الكبرى أن تتحول من مجرد شعارات تُرفع إلى سلوك يُعاش؟ لم أجد الإجابة كاملة إلا في وطني، حين تحول اليوم الوطني من مناسبة عابرة إلى تجربة حية. وجاء عام 2005 ليكون المنعطف؛ حين أصدر الملك عبدالله بن عبدالعزيز – رحمه الله – قراره التاريخي بأن يكون اليوم الوطني إجازة رسمية. لم يكن القرار عطلة عابرة، بل تأسيسًا تربويًا عميقًا، منح المؤسسات الرسمية والجامعات والإعلام والقطاع الخاص والأسر فضاءً واسعًا لتجسيد القيم عبر ممارسات منظمة. ولأن القيم لا تنبت وحدها، كان لا بد لها من أربعة جذور تمسكها في الأرض وتبقيها حية: • المعرفة: وعي بالتاريخ والرموز والإنجازات، يغذي الذاكرة الجماعية ويربط الماضي بالحاضر. • الممارسة: أفعال يشارك فيها الجميع؛ من رفع الأعلام وإنشاد السلام الوطني، إلى الفعاليات والمعارض التي تجعل القيمة ملموسة باليد لا محفوظة بالذاكرة فقط. • الاتجاه: إحساس بالبهجة والفخر، يتجلى حين تجتمع الأسر، ويرتدي الكبار والصغار الأخضر، وتتحول المناسبة إلى موسم عاطفي يربط الانتماء بالفرح لا بالواجب وحده. • الإطار المعياري: قرارات وأنظمة تحفظ التعبير في مسار منظم راقٍ، من الإجازة العامة إلى رعاية المؤسسات وضبط الممارسات. بهذه الجذور، اكتملت التجربة السعودية؛ فالقيمة لم تعد شعارًا ولا خطابًا، بل وجدانًا متجذرًا يُمارس ويُعاش. وهو ما يسميه التربويون ب"المنهج الخفي"؛ إذ أثبتت القرارات والممارسات أنها أرسخ أثرًا من أي درس نظري، وغرست هذه القيمة في الكبير والصغير، في المواطن والمقيم، بل وحتى في غير العرب الذين عاشوا بيننا وشاركوا أفراحنا. وحتى بلغة الأرقام، فقد أظهر مؤشر إيدلمان للثقة (2024) أن نسبة الثقة بالحكومة السعودية بلغت نحو 87 %، وهي من أعلى النسب عالميًا، فيما صنّف مؤشر السلام العالمي المملكة ضمن أكثر الدول أمانًا واستقرارًا. وهذه الأرقام ليست بيانات باردة، بل شواهد عملية على أن ما يُغرس بالقرارات والممارسات يتحول إلى ولاء وثقة تُقاس في الواقع كما تُحس في القلوب. ولم يكن الدليل بعيدًا عني؛ فقد رأيت في أصغر أبنائي، وهو الذي لم يعرف للرسم ميولًا من قبل، كيف أمسك قلمه ورسم الملك سلمان وولي عهده. ورأيت الآخر يضع خلفية جواله صورة ولي العهد وعلم المملكة، وقد غدا ذلك سلوكه الدائم لا يغيّره على امتداد العام. عندها أيقنت أن القرارات الحكيمة والاحتفالات المنظمة لم تغيّر يومًا في العام فحسب، بل غيّرت وجدان أمة بأسرها. لقد صار الغرس أبلغ من الخطب، ورسمة طفل أصدق من كل الكلمات.