لم يبق في العد التنازلي سوى نحو ثلاثة أسابيع قبل أن يغادر جورج بوش وإدارته البيت الأبيض بعد ثماني سنوات انتهت بأميركا والعالم إلى وضع لم يكن قابلا للتخيل في مطلع سنة 2001. دخل جورج بوش البيت الأبيض في ولايته الأولى بحكم قضائي، وبعد انتخابات مشكوك في نزاهتها جزئيا، لكن الشعب الأميركي ومعه العالم كله تقبل ما جرى أملا في سياسات أفضل. والآن في نهاية ولايته الثانية والأخيرة يصارع جورج بوش بشدة حتى لا يجري تصنيفه على أنه أسوأ رئيس في تاريخ أميركا. في الواقع إن هذا التصنيف يحوم حول جورج بوش منذ سنتين على الأقل. ففي سنة 2006 أجرت جامعة أميركية استطلاعا للرأي محوره تقييم من هو الأفضل والأسوأ من بين أحد عشر رئيسا عرفتهم أميركا منذ سنة 1945. وبالنتيجة كان جورج بوش هو الرئيس الأسوأ في نظر 34 في المئة مقابل 17 في المئة لريتشارد نيكسون مثلا. وفي استطلاع آخر في السنة التالية 2007 رأى 66 في المئة أن جورج بوش هو الرئيس الأسوأ. وفي استطلاع ثالث أجرته قناة سي.إن.إن في الشهر الماضي كان جورج بوش هو الرئيس الأسوأ في نظر 76 في المئة، وهو أعلى تقييم سلبي منذ بدأت استطلاعات الرأي في أميركا قبل ستين سنة. حتى المؤرخين والأكاديميين الأميركيين الذين جرى استطلاع آرائهم وهم المفترض فيهم الموضوعية والمعرفة لم يختلف تقييمهم عن الاستطلاعات السابقة مع إضافة أن جورج بوش لم يستطع حتى إنهاء الحروب التي بدأها في أفغانستانوالعراق زائد ما اعتبره حربا شاملة على الإرهاب. في المقابل نجد أن قلق جورج بوش ومساعديه من تقييم التاريخ الأميركي يمكن اكتشافه ضمنيا من خلال إجاباتهم على ما يطرح عليهم من أسئلة وحوارات في أسابيعهم الأخيرة في السلطة. قبل أسبوع مثلا قال ديك تشيني نائب جورج بوش في حوار له مع صحيفة"واشنطن تايمز":"أنا شخصيا مقتنع بأن هذا الرئيس وهذه الإدارة ستكون النظرة إليهما جيدة جدا خلال 20 أو 30 سنة من الآن". هذه الفكرة نفسها سبق أن عبرت عنها كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية في اجتماعات ضيقة مع دوائر البيزنيس ومراكز الدراسات. والراجح أن المقصود هنا هو أنه مع اشتداد الصراع عالميا على البترول ومصادر الطاقة بين الدول الكبرى خلال السنوات المقبلة سينظر المؤرخون إلى قيام جورج بوش وإدارته بوضع يد أميركا على بترول العراق باعتباره عملا بعيد النظر يضيف استراتيجيا إلى قوة أميركا خصما من قدرات القوى الدولية المنافسة في تطلعها إلى عرش القوة. ربما يكون هذا هو أيضا ما دفع كوندوليزا رايس قبل أيام إلى ترجيح احتمال أن يسير الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما بعد تسلمه السلطة في العشرين من الشهر المقبل على خطى إدارة جورج بوش الحالية في ما يتعلق بالكثير من قضايا السياسة الخارجية وبينها الملف الإيراني. لكن الشعب الأميركي لم ينتخب باراك أوباما لكي يكرر سياسات جورج بوش. والتصويت الكاسح الذي حصل عليه أوباما في الانتخابات لم يكن مجرد اختيار انتخابي تقليدي، بل كان أقرب إلى تفويض شعبي بتغيير سياسات جورج بوش التي عاش بها طوال ثماني سنوات. وخلال تلك المدة لم يرتكب جورج بوش الأخطاء فقط وإنما كان يفتقر إلى القدرة على التعلم منها بل كان يختار في كل مرة المكابرة حتى النهاية. في هذا الشهر مثلا سئل جورج بوش عن ما إذا كان لديه ما يأسف عليه من سياساته، فأجاب بأنه يتمنى لو كانت معلومات الاستخبارات عن أسلحة صدام حسين للدمار الشامل أفضل مما جرى. وجه المكابرة هنا مزدوج. فمن ناحية هو أنعم على جورج تينيت بأعلى وسام أميركي عند تقاعده من رئاسة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وهو ما يعني أنه بالغ التقدير لأعمال الوكالة. ومن ناحية أخرى تواترت الأدلة بأثر رجعي على تلاعب كل إدارة جورج بوش بتقارير الاستخبارات الأميركية عن العراق وأسلحة الدمار الشامل رغم معرفة سابقة مؤكدة بعدم وجود مثل تلك الأسلحة أصلا. وهانز بليكس السويدي المخضرم الذي كان رئيسا لفريق التفتيش المكلف من الأممالمتحدة بالملف العراقي عانى الأمرين من ضغوط إدارة جورج بوش عليه وعلى فريقه. وفي هذا الشهر كشف هانز بليكس عن أنه في اجتماع له ومحمد البرادعي مدير وكالة الطاقة النووية مع ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي في مكتبه في واشنطن سمع الاثنان منه تهديدا ضمنيا بالتشهير بهانز بليكس وفريقه إذا لم تجئ تقاريرهم على هوى السياسة الأميركية. حرب جورج بوش في العراق وقبلها حربه في أفغانستان وبموازاتهما ما قال إنه حرب شاملة على الإرهاب أخذت أميركا بعيدا في مشروعها الإمبراطوري الذي قرره المحافظون الجدد. هذا المشروع استلزم من إدارة جورج بوش حلولا عسكرية في الخارج وحلولا بوليسية في الداخل. قد تكون حرب بوش في العراق في بؤرة الاهتمام بدرجة أكبر، ليس فقط لسقوط أربعة آلاف جندي أميركي قتيلا زائد ثلاثين ألف جريح، ولكن أيضا لأن كلفتها الإجمالية في نهاية المطاف ستتجاوز ثلاثة تريليونات دولار حسب جوزيف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد. أما الوجه الآخر للعملة فهو أن سنوات جورج بوش في البيت الأبيض شهدت تآكلا غير مسبوق في الحريات المدنية داخل أميركا ذاتها، وأيضا انهيارا في القيم الأميركية التي كانت تروج لها خارجيا. العالم كله ما يزال يشعر بالصدمة مثلا من صور تعذيب الأسرى العراقيين في سجن أبو غريب على أيدي المجندين الأميركيين والمجندات. العالم يتذكر أيضا معتقل غوانتانامو حيث المئات معتقلون لسنوات بغير تهمة ولا حتى مجرد الحق في وجود محام. وكأن دوامة الحروب الأميركية المفتوحة غير كافية، فجاء زلزال الأزمة المالية غير المسبوقة التي صنعتها أميركا وصدرتها إلى العالم كله لكي تكشف عن انهيار مروع في النموذج الأميركي للرأسمالية. ومع أن الأزمة بدأت بانهيار في سوق الرهن العقاري نتيجة لانفلات القروض غير المضمونة إلا أن وتيرتها تسارعت لتلحق بكل الجهاز المصرفي الأميركي ومنه إلى الاقتصاد الحقيقي. ولم تكف صفقة إنقاذ عاجلة من 700 بليون دولار لوقف الانهيار وإنما اضطرت الإدارة أخيراً إلى إقراض شركتي سيارات بأكثر من 17 بليون دولار، فيما يمثل انقلابا على المفاهيم التي كانت أميركا تفرضها على الآخرين كلما استطاعت. وخلال أسابيع قليلة توالت الوجوه القبيحة التي كشفت عنها الأزمة المالية بما جعل الرئيس المنتخب باراك أوباما يعد بخلق 2.5 مليون فرصة عمل لكي يعدلها تاليا إلى ثلاثة ملايين في ضوء الحقائق الاقتصادية المريرة التي خلفتها سياسات جورج بوش، بدءا من تحرير سوق المال من القيود إلى تحلل أجهزة الرقابة المالية من مسؤولية ملاحقة وكشف الفساد. وأخيراً تفجرت فضيحة جديدة في سوق المال الأميركي إذ نجح شخص واحد في إسقاط مؤسسات محترمة بعملية احتيال تجاوزت خمسين بليون دولار، وأسمتها صحيفة فرنسية"أكبر عملية احتيال لهذا القرن". هذا العنوان يمكن أيضا التوسع فيه ليكون عنوانا لمجمل سياسات المحافظين الجدد وجورج بوش، الذي بدأ متأخرا جدا يعبر عن قلقه الضمني من مصفاة التاريخ التي لا ترحم. پ * كاتب مصري. نشر في العدد: 16704 ت.م: 28-12-2008 ص: 15 ط: الرياض