هل يمكن القول إن الثقافة تراكم معرفي؟ ربما تبدو كذلك في ظاهرها، غير أن حقيقتها أعمق من هذا التصور، فهي ليست رصفًا للمعارف ولا تجميعًا للمعلومات، وإنما تحوّل داخلي يعبّر عن استجابة الإنسان لأسئلته الكبرى، وحركة وعيٍ تتجاوز الظواهر لتصل إلى الجذور، وتسير بالعقل من طور التلقي إلى أفق التكوين، ومن حفظ المعلومة إلى إنتاج الرؤية. الفكر في جوهره تأمل، فعل، وتجديد، تظهر قيمته في قدرته على إنتاج المعنى، وعلى طرح السؤال الذي يكشف هشاشة المسلّمات وقوتها معًا، إنه فعل يجرّب الحدود لا ليكسرها، بل ليختبرها، ويستمتع بالمساءلة قبل أن يبحث عن الإجابة، ومن هذا الوعي المتجدد تنبثق الثقافة، لتمثل نتيجة ذلك الحراك الداخلي، ممارسة مستمرة لإعادة النظر في المفاهيم والقيم، وليست امتلاكًا للنصوص أو تراكمًا للمراجع. في زمنٍ تتكاثف فيه المعلومات وتتسارع فيه الصور، أصبحت المشكلة الحقيقية في غياب البوصلة فضلاً في نقص المعرفة أحياناً، فالمعنى يضيع وسط وفرة القول وتناسل المحتوى، وحين تتحول القراءة إلى استهلاك، والمعرفة إلى تكرار، يغيب الوعي الذي يربط بين الفكر والغاية، ويضمحلّ العمق في زحمة المفردات، حتى تغدو الثقافة قشرة لغوية تخلو من التأمل وتفتقر إلى النقد. الغاية من الثقافة أن تفتح الأبواب وأن توقظ الأسئلة، ولعلها طريق لدعوة مستمرة إلى مراجعة الذات، وإعادة تأمل المجتمع والتاريخ، وفهم الواقع، وحين تكون الثقافة قادرة على زحزحة المألوف، وتحرير الإنسان من سلطة العادة والجماعة والسائد، عندها فقط تتحقق وظيفتها الكبرى بوصفها أداة انعتاقٍ فكري. لا تكتمل الثقافة دون وعيٍ أخلاقي يوجّهها، فالمعرفة التي لا تتكئ على تواضعٍ إنساني تتحول إلى سلطةٍ تقيد العقول، أما المثقف الحقيقي فهو الذي يشارك فكره كما يشارك الآخرون خبزهم، ويدعو إلى الحوار وتقبل الاختلاف، ويجعل من الفكر مجالاً للمشاركة وليس ميدان للسيطرة، فقيمة الثقافة بمدى التحوّل الذي نعيشه بفضلها، وبالطريقة التي نحسن بها استخدام ما نعرفه في بناء إنسانٍ أوسع وعيًا. العقل النقدي هو روح هذا المسار، فهو الذي يمنح الفكر قدرته على الحركة ويتجاوز ظاهر النص إلى سياقه، ويدرك أن كل فكرة جزء من منظومة أوسع من القول والسلوك، وبه يتحرر الوعي من أسر التكرار، ويستعيد الفكر طاقته الأصلية في تحريك أمواج التغيير. إذاً الثقافة مسارٌ دائم من الاكتشاف، وتجربة مفتوحة تسير من الذات إلى الآخر، ومن العادة إلى الاحتمال، ومن المألوف إلى الممكن، وهي عملية نضجٍ متواصلة تُعيد تعريف الإنسان أمام ذاته والعالم، ومن دون هذا السير المستمر تفقد معناها وتتحول إلى عبءٍ معرفيّ. إن المجتمعات التي تُنتج فكرها وتبني ثقافتها الخاصة تمتلك القدرة على صياغة مستقبلها، والمجتمعات التي تكتفي بالاستهلاك تظل أسيرة الماضي ورهينة التكرار.