يعد مهرجان دمشق المسرحي من أعرق المهرجانات المسرحية العربية، فقد انطلق نهاية الستينات على يد مجموعة من الهواة، بينهم الراحل سعدالله ونّوس وعمر حجو وعلاء الدين كوكش وأسعد فضة وسواهم. واستمر المهرجان في الانعقاد إلى أن وصل إلى دورته الرابعة عشرة التي تختتم اليوم. وكان المهرجان، الذي يقام مرة كل سنتين، توقف دورات عدة لأسباب سياسية تارة، وتقنية - فنية تارة أخرى. وخلال هذه العقود الأربعة من عمره استطاع المهرجان أن يراكم الخبرات، ويبلور هوية خاصة تمثلت في طابعه العربي، وتوجهه القومي. وفي حين يعتبر بعضهم هذه الصفة ميزة للمهرجان، فإن آخرين يرون فيها عبئاً يؤثر سلباً على سوية العروض المختارة، فالتوجه ذاك يدفع بالقائمين على المهرجان إلى جلب عروض متواضعة من بلدان مثل ليبيا والسودان واليمن وسلطنة عمان... التي لم تتمكن، بعد، من تكريس مسرح قادر على منافسة بلدان أخرى اهتمت، نسبياً، بالنشاط المسرحي مثل تونس، المكرمة في هذه الدورة ومصر وسورية ولبنان والعراق. إن مراعاة الشرط"الجغرافي - القومي"في اختيار العروض، فضلاً عن معايير أخرى، بالطبع، كالرؤية الإخراجية، ومنهجية العمل، وأداء الممثلين، فرضت تبايناً في مستوى العروض المقدمة التي اختارتها من قبل لجنة مؤلفة من الدكتور نبيل حفار وعجاج سليم مدير المهرجان وكميل أبو صعب وباسم قهار. يشكو القائمون على مهرجان دمشق المسرحي، الذي تنظمه مديرية المسارح والموسيقى التابعة لوزارة الثقافة السورية، من الموازنة الضئيلة التي ترصد للمهرجان، والتي لا تتجاوز، بحسب المقربين من المهرجان، 15 مليون ليرة سورية نحو 300 ألف دولار، وهو رقم أقل بكثير مما يخصص لمهرجان دمشق السينمائي، مثلاً، الذي تبلغ موازنته أكثر من مليون دولار ، فضلاً عن الدعم الذي يقدمه بعض الرعاة. والواقع أن مثل هذا"البخل المسرحي الرسمي"ينعكس سلباً على مختلف مفاصل المهرجان بدءاً من مطبوعات المهرجان، خصوصاً نشرة"المنصة"اليومية التي تواكب فعاليات المهرجان، والتي تظهر في شكل رديء من ناحية الطباعة، والصور، ونوعية الورق، مروراً بوسائط النقل، وتقاعس المنظمين، وصولاً إلى عدد الوفود، ومقر إقامة الضيوف، إذ تضطر إدارة المهرجان إلى فرزهم، وتوزيعهم على فنادق يتزايد عدد نجومها أو يتناقص بما يتناسب مع مقام الضيف، ومكانته المسرحية! إن هذه التفاصيل قد تكون ثانوية في مهرجان يحتفي بالمسرح، لكنها تنجح في تحويل المهرجان إلى محطة مناسبة للنميمة والتقولات والهمسات الجانبية وبعض التأفف، وهو ما عبَّر عنه أحد المسرحيين بالقول:"إن البديهيات التنظيمية، والإدارية المتبعة في مهرجانات مماثلة، ليست كذلك في مهرجان دمشق المسرحي". يحظى البلد المضيف بالنسبة الأعلى لجهة العروض المشاركة، فنصيبه من حوالى أربعين عرضاً مجموع عروض المهرجان الثلث تقريباًَ، وكانت الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة قد سعت، خلال العام الفائت، إلى تنشيط الحركة المسرحية عبر دعمها عدداً من العروض المسرحية مثل"المهاجران"لسامر عمران، و"تكتيك"لعبدالمنعم عمايري، و"كذا انقلاب"لبسام كوسا، و"عربة اسمها الرغبة"لغسان مسعود، و"صوت ماريا"لمانويل جيجي، و"تياترو"لباسم قهار وسواها. وقد استقدم المهرجان معظم هذه العروض كي يقدمها في إطار أنشطته، كما عملت إدارة المهرجان على دعم بعض التجارب السورية الشابة عبر إتاحة الفرصة لها لتقديم عروضها ضمن فعاليات المهرجان في تظاهرة خاصة بعنوان"نظرة مستقبلية"، إضافة إلى جلب بعض العروض من المحافظات السورية. إلى جانب هذا الحضور الطاغي للدولة المضيفة، حظيت تونس بمشاركة لافتة عبر ستة عروض هي"سنديانة"و"امرأة"لزهيرة بن عمار، و"وزن الريشة"لغازي زغباني، و"ألبستك الزينة"لصالح بن يوسف، و"مر الكلام"للشاذلي العرفاوي. لكن العرض التونسي الأهم تمثل في مسرحية"مذكرات ديناصور"للمخرج الراحل رشاد المناعي، وقد أعدها توفيق الجبالي الذي أدى أحد الأدوار الرئيسة فيها. ينهض العرض، المقتبس عن نص"حوار المنفى"لبرتولد بريخت، على محاورة تجري بين مناضل فقير، وبورجوازي ما يقود إلى حديث متناقض ومفعم بالمفارقات، يجري في زمن رمادي وشاحب يذكرنا بأجواء مسرحية"في انتظار غودو"العبثية لصموئيل بيكيت. وفي حين يستعيد جواد الأسدي في عرضه"أرامل على البسكليت"ثيمة الاستبداد، وما يخلفه في النفوس من وجع وعطب وحرمان، فإن مي سعيفان، السورية القادمة من ألمانيا، سعت في عرضها الراقص"كونتراكت"، إلى مسرحة نصوص"تاريخ يتمزق في جسد امرأة"لأدونيس عبر التعبير بالجسد عن آليات تنميط المرأة والمآلات التي تنتهي إليها، ورافق العرض تسجيل صوتي لأودنيس سُجل خصيصاً للعرض. وبينما اتكأ اللبناني طلال درجاني على عوالم ديستويفسكي لإنجاز عرضه"حلم رجل مضحك"، الذي يركز على الصراع الأبدي بين الخير والشر، فإن العراقي ابراهيم حنون ناقش في عرضه"الموت والعذراء"، المقتبس عن نص بالاسم ذاته لاريل دورفمان، جدلية الضحية والجلاد وكيفية تبادل الأدوار بينهما. وارتأى بعض المخرجين العودة إلى التراث مستلهمين حكاياته الشعبية، مثل عرض"أبو حيان التوحيدي"للقطري حمد الرميحي الذي يتحدث عن صراع المثقف والسلطة، و"عنتر وعبلة"لهشام كفارنة، و"مأساة المهلهل"لحكيم حرب، و"الزير سالم والأمير هاملت"لرمزي شقير... وغيرها. ومن دون الخوض في تفاصيل جميع العروض، فإن معظم العروض جاء متواضعاً، وأخفق في انتزاع إعجاب الجمهور القليل على أي حال، ويمكن أن نعزو غياب الجمهور إلى جملة من الأسباب، لعل أبرزها أن المسرح لم يعد يشغل اهتمام الجمهور في ظل هيمنة ثقافة الصورة، وتجاهل المسرحيين أنفسهم للمسرح، فقد جذبتهم أضواء الدراما التلفزيونية التي تؤمن للعاملين فيها مبالغ مجزية، وشهرة واسعة، على عكس"العرض المسرحي الذي يموت في اللحظة التي ينتهي فيها العرض"، بحسب تعبير الناقد المسرحي عبدالناصر حسو الذي ربط بين غياب الجمهور عن فعاليات المهرجان، و"النجومية"التي يعجز المسرح عن صناعتها، كما هي الحال في السينما مثلاً، لذلك نجد الجمهور، الباحث عن النجم، كثيفاً في مهرجان السينما، بينما لا يتحقق الأمر ذاته في مهرجان مسرحي يفتقر إلى"النجم"بالمعنى الجماهيري، الشعبي. والسؤال عن غياب الجمهور أو حضوره يتجاوز البعد الدعائي، الكرنفالي، وإضفاء حيوية على المهرجان، ليصل إلى الحد الذي يكون فيه هذا الجمهور هو المعيار الوحيد لتقويم العروض، ذلك أن مهرجان دمشق المسرحي لا يعتمد نظام الجوائز، فالعروض تقدم في إطار من المنافسة الشريفة، من دون مسابقة رسمية، ولا لجان تحكيم، ويبقى الحكم الفصل، والحال كذلك، هو نسبة الحضور التي يمكن القياس على أساسها نجاح عرض ما، وفشل آخر. وتناولت الندوة الرئيسة للمهرجان موضوعة الدراماتورجيا، عبر ثلاث جلسات شارك فيها عدد من النقاد والباحثين المسرحيين السوريين والعرب والأجانب الذين حاولوا تسليط الضوء على هذا المفهوم، وشرح وظيفة الدراماتورجيا في المسرح المعاصر، وعلاقة هذا المفهوم بالنقد المسرحي، والسينوغرافيا وغيرها من المحاور، والشهادات المتعلقة بجوهر هذا المفهوم ودلالاته وأبعاده. وربما كانت هذه الجلسات، فضلاً عن عروض قليلة، هي النقطة المضيئة في مهرجان بدا باهتاً، ولعل هذا الخفوت يتبدى في نشرة المهرجان اليومية المملوءة بالأخطاء الطباعية، والنحوية، والإخراجية على الدرجة التي تجرّأ فيها أحد الزملاء الصحفيين إلى القول إن"هذه الدورة تجعلك تكره شيئاً اسمه المسرح"، في حين كان المسرحي السوري المغترب عادل قرشولي أكثر ديبلوماسية حين قال بان"الميزة الإيجابية للمهرجان تكمن في جمع هذا الحشد من المسرحيين الذين يتحاورن ويتناقشون ويتعارفون". لكن قرشولي، المقيم في ألمانيا، والمشتاق إلى مدينته دمشق، اختتم، متندراً، بأن"الأجمل في المهرجان هو أن نافذة غرفتي في الفندق تطل على جبل قاسيون"! نشر في العدد: 16697 ت.م: 21-12-2008 ص: 36 ط: الرياض