جُبلت النفوس على حبّ من أحسن إليها وكره من أساء إليها، فالإحسان لغة عالمية تفهمها القلوب جميعاً، على اختلاف ألسنتها وألوانها وأوطانها، ومن هنا جاءت الحكمة المأثورة: «المرء أسير الإحسان»، أي أن الإنسان بطبعه يحب ويخضع لمن يكرمه ويحسن معاملته، ذلك أن الإحسان قيد من المحبة والمودة يربط القلوب ويجعلها أقرب إلى الصفاء والمسامحة، بل ويقودها إلى الهداية والرشاد. إن أول ما يتأثر به الإنسان في حياته ليس كثرة المواعظ ولا قوة الحجج فحسب، وإنما حسن المعاملة وصدق الموقف، فقد قال النبي صلّى الله وسلّم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»، فالأخلاق الحسنة هي المدخل الأول إلى القلوب، وهي الجسر الذي يعبر عليه الإيمان إلى النفوس، ولذلك نجد أن كثيرًا من الناس لم يدخلوا في الإسلام عن طريق جدال فكري أو معركة عسكرية، وإنما دخلوا فيه لأنهم رأوا صدق المسلمين في البيع والشراء، أو وفاءهم بالعهد، أو رفقهم بالضعفاء، أو عفوهم عند المقدرة، فالتعامل الحسن هو أقوى سلاح في هداية الناس؛ لأنه يخاطب القلب مباشرة بلا حواجز. أمّا الصدق فهو شقيق الإحسان وأساس الثقة بين الناس، فالكاذب لا يُؤمَن، ولا يجد له موطئ قدم في القلوب، أمّا الصادق فإنه يحظى بالمحبة حتى من خصومه؛ لأن الصدق فضيلة يشهد لها الجميع، وقد سُمّي النبي عليه الصّلاة والسّلام قبل البعثة ب«الصادق الأمين»، فكان ذلك أعظم رصيد دعوي له حينما بعثه الله بالرسالة. والإنسان في طبيعته ميّال إلى من يُكرمه ويعفو عنه ويقابل إساءته بالإحسان، فإذا اجتمع مع ذلك صدق في القول وصفاء في النية ازداد التعلّق والمحبة، ومن الجدير ذكره أن الناس قد يختلفون في آرائهم أو مذاهبهم أو مصالحهم، لكنهم يجتمعون على تقدير من أحسن إليهم، ولذلك قيل: «الإحسان يقطع اللسان»، أي أنه يُخرس كل حجة للعداوة أو البغضاء، فإذا أحسنت إلى من بينك وبينه خصومة، وجدته يميل إليك ويحبك..، فالمعادلة واضحة: الإحسان يُذيب العداوة والصدق يثبت المودة، ومن جمع بينهما فقد ملك قلوب الناس بلا عناء. ثم إن الإحسان بين الناس باب عظيم للخير، فهو يشمل الإحسان إلى الوالدين، والإحسان إلى الجار، والإحسان إلى اليتيم والمسكين، بل حتى الإحسان إلى الحيوان، فالمسلم الحق يعيش محسنًا في كل أحواله، ولذلك قال النبي عليه الصّلاة والسّلام: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»، فالإحسان ليس درجة عادية، بل هو قمة الفضائل ومفتاح للقلوب ووسيلة للهداية، ومن ارتقى إليها كان محبوبًا عند الله وعند الناس جميعًا. النبي صلى الله عليه الصّلاة والسّلام بعد فتح مكة، قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، بالرغم مما فعلوه به وبأصحابه من إيذاء وحصار وقتال، فكان هذا العفو إحسانًا عظيمًا جعل كثيرًا منهم يدخلون في الإسلام طواعية، والنبي يوسف عليه السلام في السجن: أحسن معاملة زملائه في السجن، فكانوا يحترمونه ويثقون بكلامه، حتى قالوا له: «إنا نراك من المحسنين»، فكان إحسانه مفتاحًا لتأثيره فيهم ودعوتهم إلى التوحيد. إن المجتمع الذي تسوده روح الإحسان مجتمع متماسك تسوده الثقة والمحبة، فإذا أحسن الناس بعضهم إلى بعض، زالت الضغائن وانتشرت المودة وقوي البناء الاجتماعي، وعلى العكس إذا غاب الإحسان وحلّت مكانه الأنانية والظلم، تفككت الروابط وضعفت القيم، وصار كل فرد يبحث عن مصلحته الخاصة ولو على حساب غيره، ولهذا فإن الإحسان هو الصمام الذي يحفظ العلاقات الإنسانية من الانهيار، والدواء الذي يشفي أمراض الكراهية والحسد والخصومة. نحن اليوم أحوج ما نكون إلى الإحسان في حياتنا اليومية: في الأسرة بأن نعامل الزوجة والأبناء بالرفق والرحمة، في العمل بأن نؤدي الأمانة بإتقان ونبتعد عن الغش والتقصير، في الشارع بأن نبتسم للناس ونكفّ الأذى عنهم ونساعد المحتاج، في الخلافات بأن نقابل الإساءة بالصبر والحلم، لا بالانتقام والتشفي، وكل موقف في الحياة فرصة للإحسان، وكل إحسان يترك أثرًا في قلب إنسان، وقد يكون سببًا لهدايته أو محبته أو دعائه لك بظهر الغيب. ولعل أعظم أثر نتركه بعدنا ليس ما نجمع من مال ولا ما نبني من جاه، وإنما ما نزرع من بذور الإحسان في القلوب، ومن أحسن إلى الناس ملك قلوبهم، فالمرء حقًا أسير الإحسان يذوب قلبه لمن أحسن إليه، ويميل طبعه إلى من عامله بصدق ورحمة.