في كل وزارة هناك خلل يمكن ملاحظته لا يؤثر في المستفيدين، لكن في وزارة الصحة تحديدًا، الخلل له أثر مباشر في الإنسان ذاته، في نبضه، صحته، ومكانته حين يطلب الخدمة. إحدى المشكلات المزمنة التي لم تُطرح بالجرأة الكافية هي تحول الأطباء إلى وظائف إدارية، حتى أصبحت المكاتب تمتلئ ب«أطباء إداريين» أكثر مما تمتلئ العيادات بأطباء ممارسين. من الطبيعي أن يتدرج الطبيب في السلم المهني ويبحث عن تطوير ذاته، لكن أن يتحول من ممارسة مهنته الإنسانية إلى العمل خلف المكاتب فهذا أمر آخر. الطب رسالة إنسانية قبل أن يكون وظيفة، ومتى فقد الطبيب اتصاله بالمريض، فقد جزءًا من روحه المهنية التي صقلته في سنوات الدراسة والسهر والمناوبات. المشكلة أن وزارة الصحة سمحت بهذا التحول دون ضوابط واضحة، فأصبح الطبيب الذي يتحول إلى إداري يتقاضى راتب طبيب وراتب إداري مع أنه يمارس عملًا إداريًا لا يمت إلى تخصصه الطبي بصلة. وهنا يبدأ الخلل: لا الإدارة تستفيد من كفاءة إدارية حقيقية، ولا القطاع الصحي يستفيد من خبرة الطبيب الذي هجر مهنته الأصلية. العمل الإداري له علمه، ومهاراته، ومنهجيته التي لا تقل تعقيدًا عن علم الطب نفسه. فالإدارة ليست مجرد توقيع معاملات أو إصدار قرارات، بل هي فنّ في إدارة الموارد، وقيادة البشر، وتحليل المنظومات. الطبيب الذي لم يتدرّب إداريًا سيقع في فخ «الارتجال»، فيقود إدارة صحية بعقلية غرفة العمليات، بينما الإدارة تحتاج إلى عقلية النظام والتخطيط والحوكمة، لا إلى قرارات آنية أو مزاجية. وهذا التحول لا يضر فقط بجودة الأداء الإداري، بل يخلق نزيفًا خفيًا في جودة الخدمة الصحية نفسها. فعشرات الأطباء الأكفاء تركوا العيادات والمستشفيات ليتولوا مناصب إدارية بحثًا عن الراحة أو الامتيازات المالية، ما أدى إلى نقص الممارسين الفعليين في الميدان. والنتيجة: قوائم انتظار طويلة، ضغط على الكوادر، وشعور متزايد بالإحباط بين من تبقّى في الخدمة الفعلية. الوزارة اليوم بحاجة إلى قرار شجاع يعيد ضبط هذا المسار. فالحل ليس معقدًا: أولًا، يجب تحويل الطبيب الإداري إلى السلم الإداري مباشرة، بحيث يتقاضى راتبًا إداريًا فقط ويفقد مميزات السلم الطبي. لا يمكن الجمع بين راتبين مختلفين لمهمتين متناقضتين. فالعدالة الوظيفية والمالية ركن أساسي من أركان الإصلاح. ثانيًا، يجب أن يخضع الطبيب الذي يرغب في التحول إلى الإدارة لدورات وشهادات متخصصة في الإدارة الصحية، ليكون مؤهلًا فعلًا لهذا الدور. فليس كل طبيب يصلح أن يكون إداريًا، كما ليس كل إداري يستطيع أن يجري عملية جراحية. بهذه الخطوات يمكن أن تُعاد التوازنات داخل المنظومة الصحية، ويُفصل بين ما هو طبي وما هو إداري. لأن الإشكالية ليست في الطموح، بل في غياب التنظيم الذي يجعل كل شيء متداخلًا. الطبيب الإداري اليوم يظن أنه يخدم القطاع من موقع القيادة، لكنه في الحقيقة يسحب من رصيد الخدمة الطبية نفسها. إعادة الأمور إلى نصابها ليست تقليلًا من قيمة الأطباء، بل حفاظًا على مهنتهم، وعلى جودة الإدارة في الوقت ذاته. فحين نضع الشخص المناسب في المكان المناسب، نربح مؤسستين: مؤسسة الإدارة، ومؤسسة الطب. أما حين نخلط بينهما، نخسر كليهما في صمت. وزارة الصحة ليست بحاجة إلى المزيد من الأطباء خلف المكاتب، بل إلى إدارة محترفة تدير الأطباء في الميدان. عندها فقط سنرى منظومة صحية تعمل بعقل إداري منظم، وقلب طبي نابض، كما يجب أن تكون.