"أنتم ترصدون الإخفاق".. عبارة لن ينساها الناقد الدكتور سحمي الهاجري، وقد وجهها له أحد النقاد المحليين -حسب وصفه- مطالع الثمانينات من القرن الماضي، حين أعلن أن بحثه في رسالة الماجستير سيكون عن القصة في السعودية. مقولة ذلك الناقد، لم تفت في عضد الهاجري حينها، إذ كانت له منطلقاته ورؤاه التي تستند طبقا لروايته ل"الوطن" تطلعا إلى هدف بعيد، وتوقُّع بأن تكون السعودية من المراكز الأساسية لإنتاج الثقافة العربية خلال ربع قرن من ذلك التاريخ. الهاجري الذي انتهى أخيرا من مراجعة مسودة بحثه/ كتابه "القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية" الذي سيعاود نادي الرياض الأدبي إصداره في طبعة ثانية بعد حوالي 30 عاما من صدور طبعته الأولى عام 1988، كشف ل"الوطن" متحدثا عن قصة الكتاب "كان هدفي من البداية التخصص في الأدب المحلي الذي قل الاهتمام به في تلك المرحلة، وكانت أنظار المبدعين والنقاد آنذاك مشدودة إلى أدب المراكز التقليدية في مصر والشام والعراق، إلى درجة أن أحد النقاد المحليين قال لي تلك العبارة، ولم أهتم لكلامه، لأنني كنت أرى أنه علينا السعي لتحقيق ذلك الهدف، وهو ما حدث اليوم بدرجة معتبرة، وعن طريق السرديات نقدا وإبداعا في المقام الأول". الكتاب الذي كان في الأساس رسالة علمية لنيل درجة الماجستير من جامعة القاهرة، بإشراف الدكتور الطاهر أحمد المكي، حصلَت على تقدير (ممتاز) بعد أن ناقشها الدكتور عبدالقادر القط، والدكتور محمد فتوح أحمد عام 1985، كانت له دوافع بحثية أيضا، لخصها الهاجري بقوله" مسألة اختيار الموضوع مبنية على أمرين: أولاً: أن أغلب الدراسات الأكاديمية السابقة ركزت على الشعر، ولم تحظ الفنون السردية في ذلك الحين بدراسة مستقلة. ثانيا: ما كتبه الدكتور منصور الحازمي في كتابه (فن القصة في الأدب السعودي الحديث) الذي تضمن إلماحة مختصرة عن القصة القصيرة في المملكة، جاء فيها "لا أدعي لهذه الصفحات القليلة صفة الشمول والعمق، وصفة الشمول تتطلب من الباحث جهدا مضنيا في جمع مادته وتصنيفها ودراستها لا من خلال المجموعات القصصية المطبوعة فحسب، بل من بطون الصحف والمجلات"، واعتبرت كلام أستاذنا الحازمي (خطة عمل) تقدمت بها إلى المشرف على الرسالة ووافق عليها". بحث بدأ الهاجري الذي فاز آخر كتاب له "حوار النصوص" بجائزة وزارة الثقافة والإعلام لهذا العام خلال معرض الرياض الدولي للكتاب 2015، بحثه في فترة عرفت بقلة أو ندرة المراجع والمصادر حول موضوعه، لكن تجاوز ذلك المأزق، وهو يقول "كنت أعرف جيدا أنه (لا بد مما ليس منه بد) وهو القيام بعملية تكشيف جميع الأعداد القديمة للصحف المحلية، واستمرت هذه المهمة أربع سنوات، كنت أتردد فيها بين دار الكتب المصرية ومكتبة الحرم ومكتبات الجامعات السعودية والمصرية والسفر لمقابلة عدد من الأشخاص للبحث عن تفصيلة ولو صغيرة مثل القاضي محمد الحافظ في المدينةالمنورة لأنه زامل أحمد رضا حوحو في مدرسة العلوم الشرعية، وتأكد عندي بعد مقابلته قضية ميول حوحو الاشتراكية العميقة منذ مرحلة الدراسة، ما ساعد في تحليل نصوصه من الناحية الفنية، وهذا مثال واحد من تفاصيل كثيرة تضمها صفحات الكتاب". وإضافة إلى العوائق والصعوبات التي تواجه كل باحث، كان لهذا العمل صعوباته الخاصة بداية من محاولات التثبيط كما ذكرت، ومثل قول أديب محلي آخر "نحن نحتاج إلى ماجستير في الكيمياء والفيزياء وليس الأدب.. فقلت له: إن الأوروبيين عندما نهضوا لم يقولوا ذلك، ودراستي لا تمنع أحدا أن يدرس الكيمياء أو الفيزياء ولن يحبطني مثل هذا الكلام.. ومن محاسن الصدف أنه جزاه الله خيرا حضر شخصيا مناقشة الرسالة وشكرته على ذلك. أما أهم العقبات التقنية فهي عندما يكون في مجلد الصحيفة أو صورها على شرائح (الميكروفلم) أعداد مفقودة فأضطر للبحث عنها واستكمالها من مصدر آخر، وهي عملية مضنية ومجهدة، وتأخذ مني أحيانا أشهرا عدة وسفريات متلاحقة". استذكار وفي تبسمه للحظات العقبات التي واجهته، يسترجع الهاجري الناحية المنهجية للبحث مفصلا "لأنها الدراسة الأولى- فقد كان علي القيام بمهام أربع في الوقت ذاته، أولها جمع مادة البحث وخاصة النصوص المشتتة والمتفرقة وتصنيفها، وثانيها التطرق لتطور النهضة الأدبية في المملكة ومؤثراتها، لأن الفنون السردية متداخلة مضمونيا وفنيا مع سياقاتها أكثر من أي جنس أدبي آخر، وثالثها استحضار المراجع النقدية المعتبرة في مجال السرديات عموما والقصة القصيرة على وجه التحديد، ورابعها تحليل النصوص الدالة تحليلا فنيا وتدوين ملامح كل مرحلة". وعن جدوى إعادة إصدار الكتاب الذي صار من أهم المراجع العلمية، كأول إصدار عن القصة في السعودية، قال "أشكر لنادي الرياض مبادرته، وله الفضل الأول في نشر الكتاب إبان رئاسة عبدالله بن إدريس الذي كتب المقدمة، وستبقى تلك المقدمة في الطبعة الجديدة من الكتاب، الذي لم يسلم من السطو عليه، فكما عرفت، صار أغلب الباحثين يعتمدون على نسخ مصورة وحان الوقت لإعادة طباعته، وكنت عازما على إعادة طباعته على حسابي الخاص، لكن النادي كفاني مؤونة ذلك، والطبعة ستكون منقحة ولن تكون مزيدة للمحافظة على شخصية الكتاب الأصلية وتصويب الأخطاء الطباعية، وكما يعلم القريبون فقد احتسبت الكتاب (صدقة جارية) للباحثين ولم أحتفظ بالمعلومات التفصيلية والتواريخ باليوم والشهر والسنة وأرقام أعداد الصحف.. وبعضهم نقلها بأخطائها بدون الإشارة للمصدر وبإمكانهم تصحيح ما نقلوه من الطبعة الجديدة". حمار الكتاب ولأن أغلب الدراسات الأكاديمية السابقة لبحث الهاجري ركزت على الشعر، سألناه: هل لمقولة (القصة حمار الكتاب) أثر في انصراف البحث الأكاديمي عن القصة؟ فأجاب "إضافة إلى هذه العبارة وأمثالها، هناك أسباب عميقة كثيرة ومتداخلة، أهمها أن الشعر كان مهيمنا على الذائقة والوجدان الجمعي لآمادٍ متطاولة، كما أن السرود الحديثة مثل الرواية والقصة القصيرة مرتبطة بالمدنية والحضارة أكثر من ارتباطها بالعقلية التقليدية سليلة التجمعات البدائية المحكومة بالعرف والتابو حتى ولو كانت تنتمي للحواضر، ولذلك نلاحظ أنه كلما تطورت بلادنا حضاريا تزايد الاهتمام بالسرود الحديثة، والمسألة برمتها عملية طويلة ومعقدة، لكن نتائجها باهرة. ونقد القصة كان شبه غائب في ساحتنا الثقافية ولكن بداية من الثمانينات ومواكبة لما سمي مرحلة الحداثة بدأ في عملية متطورة ومثمرة حتى الآن، بل كان له دور مشهود في التبشير أيضا بالرواية ومواكبتها وتشجيعها وتقديمها والترويج لها". ولأن تلك الحقبة التي بشرت بالرواية شهدت بروز أسماء منصور الحازمي ومحمد صالح الشنطي وفايز أبا في مقاربة القصة تاريخا ونقدا، لا يتردد الهاجري في الإشارة إليهم، قائلاً "الدكتور الحازمي أستاذ جيل بأكمله، وهو من لفت الأنظار لأهمية السرديات بداية من دراسته عن محمد فريد أبوحديد، ثم بمطالبة الباحثين بالاشتغال على القصة القصيرة والرواية وتشجيعهم، والشنطي دوره مشهود ومقدر ولديه أرشيف كبير، وكان فاعلا في المشهد الثقافي لفترة طويلة، وأصدر عددا من الكتب والدراسات، أما فايز أبا فهو من القلة القليلة الذين يجيدون لغة أجنبية اطلع من خلالها على النظريات والمناهج النقدية الحديثة واستفدنا من ترجماته ومقارباته وأفكاره وتلميحاته في عملية تحليل النصوص من الناحية الفنية".