لم يعد المشاهد يقف طويلًا أمام نشرات الأخبار، ولا يشاهد برامج التحليل السياسي، ولا يبحث عن اللقاءات الثقافية أو الحوارات المعرفية التي كانت تملأ الشاشات سابقًا، وهذا ليس فقط في المشهد الإعلامي السعودي أو الإقليمي، بل تغيّر المزاج الإعلامي العالمي، وتحوّل بوصلة الجمهور نحو محتوى خفيف، سريع، بصري، يحمل جرعة من المتعة أكثر مما يحمل من المعلومة. إنها مرحلة جديدة يتراجع فيها الإعلام الجاد أمام صعود الإعلام الترفيهي بكل أشكاله: الألعاب، المقاطع القصيرة، برامج الواقع، الرياضة، الفنون، والترفيه الرقمي. تشير المؤشرات العالمية بوضوح إلى أن صناعة الإعلام والترفيه باتت القوة الأكثر نفوذًا في الاقتصاد الرقمي. فوفق تقرير PwC "Global Entertainment & Media Outlook 2024-28"، بلغت إيرادات قطاع الإعلام والترفيه العالمي 2.8 تريليون دولار في 2023، مع معدلات نمو مستمرة ستقود القطاع للوصول إلى نحو 3.4 تريليونات دولار بحلول 2028. هذا التوسع الهائل لم ينبع من البرامج السياسية أو المحتوى الجاد، بل من سيطرة الفيديو القصير، منصات البث، الألعاب الإلكترونية، الفنون الترفيهية، والمحتوى السريع الذي يستهلكه الناس دون جهد ذهني كبير. وللأسف المحتوى الذي يحظى بالانتشار اليوم هو الأسرع، الأكثر تسلية، والأقرب للعاطفة، لا الأكثر فائدة ولا الأكثر عمقًا، وتحليلات المنصات الرقمية نفسها تكشف عن حقيقة هذا التحوّل؛ إذ لم يعد الجمهور يريد المحتوى الطويل القائم على الشرح والتفصيل، بل يريد ما يمكن مشاهدته وابتلاعه خلال ثوانٍ معدودة، وما يثير تفاعلًا فوريًا ولو حتى بلا قيمة معرفية حقيقية. كما تؤكد تقارير الجهات الرقمية في المملكة أن YouTube وSnapchat وTikTok هي المنصات الأكثر نشاطًا وتفاعلًا، وكلّها تقوم على محتوى سريع، ترفيهي، مرئي، يُبنى على اللحظة والمشهد لا على الفكرة والتحليل، وهذا ينعكس مباشرة على شكل الإعلام السعودي نفسه، الذي وجد نفسه مضطرًا لمواكبة هذا التحول، فزاد اعتماده على تغطية الفعاليات الترفيهية، والمواسم، والمشاهير، والرياضة، والمحتوى الخفيف الذي يمكن أن يجذب المتلقي بسرعة أكبر من أي تقرير جاد. وعلى مستوى أعمق، فإن هذا الاتجاه العالمي نحو الترفيه لا يعكس فقط تغيّر ذائقة المشاهد، بل يعكس تحوّلات اجتماعية واقتصادية وثقافية؛ وكاجتهاد شخصي في تفسير هذا الأمر، فالعالم يعيش اليوم ضجيجًا معلوماتيًا، وضغوطًا اقتصادية، تجعل المتلقي يهرب إلى كل ما يخفف عنه ثقل الواقع، وفي ظل هذا الانفجار الرقمي، لم تعد المعرفة ملاذًا كما كانت؛ بل صارت المتعة هي الهروب، والضحكة هي الملجأ، والمحتوى الخفيف هو الخيار الأقرب لنبض الناس. لكن هذا التحول للمحتوى السطحي -إن صحت التسمية- جعل المتلقي أقل قدرة على التفكير العميق، وأسهم في تراجع الاهتمام بالقضايا الجادة التي تحتاج متابعة حقيقية، ومع ذلك، يبقى السؤال: هل المشكلة في الجمهور أم في طريقة تقديم المحتوى الجاد؟ وهل الإعلام الجاد والهادف لم يعد يناسب إيقاع هذا العصر، بينما استطاع المحتوى الترفيهي أن يفهم المتلقي، وأن يُخاطب حواسه وحاجته للسرعة والمرح والدهشة؟ الإعلام يتغير، والجمهور يتغير، والعالم كله ينزاح نحو جوانب الترفيه، ويبقى التحدّي الأكبر في أن نحافظ على نافذة للوعي وسط زحام المتعة، ومع ذلك، فإن الفرصة لا تزال قائمة للإعلام الجاد، شرط أن يتجدّد، وأن يتحدث بلغة العصر، وأن يقدّم نفسه في قالب بصري جذاب من ناحية المحتوى والإخراج.