ما كان يُعد خيالًا في مجالات الإعلام والاتصال أصبح واقعًا، فالتحولات التي حدثت لم تقتصر على الأدوات والمنصات، بل امتدت إلى طريقة تفكير الإنسان في المحتوى والتفاعل معه والتأثير الذي يُحدثه، إذ بات المحتوى يُشكّل وفقًا للذكاء الاصطناعي، وأصبح الجمهور شريكًا فاعلًا في الإنتاج، كما تلاشت الفواصل بين المرسل والمتلقي. المستقبل الإعلامي لن يكون مجرد تطوير للتقنيات، بل إعادة صياغة لدور الإعلام نفسه هل سيبقى الإعلام الذي يتميّز بالموثوقية باعتباره العملة الأهم؟ أم إعلام الترند والتفاعل الذي يتمحور حول الجمهور ويخاطب اهتماماته لحظة بلحظة؟ يومًا بعد يوم، تتطور الوسائط والمنصات وتتغير لتتغير معها التجربة الاتصالية، إذ لم تعد مجرد ناقل بل بيئة تفاعلية تصنع الرسالة وفقًا لتفضيلات كل شخص، وقد تنوعت بين وسائط الشبكات الاجتماعية المتعددة، وتقنيات البث المباشر، وبرامج البودكاست، والمدونات، وحتى منصات الواقع المعزز وغيرها. تشير الدراسات إلى أن 56 ٪ من جيل زد و43 ٪ من جيل الألفية يرون أن محتوى التواصل الاجتماعي أكثر ارتباطًا بهم من التلفاز أو السينما، كما يسجّل قطاع الإعلام السعودي نموًا يفوق 7.5 ٪ سنويًا، فيما يتجاوز الإنفاق العالمي على الإعلانات في المنصات الاجتماعية ربع ترليون دولار في 2025م، ما يعكس تحوّل الانتباه العالمي نحو هذا الإعلام الرقمي. أحد أبرز ملامح المستقبل هو الإعلام المُفصَّل (Hyper-personalized)، إذ سيحلل الذكاء الاصطناعي سلوك المشاهد ومزاجه ليقدّم له المحتوى الأنسب في اللحظة المناسبة، كذلك، بدأت الجهات الإعلامية توظف تقنيات الذكاء في التحرير والعلاقات العامة، من مراقبة المنصات إلى توليد النصوص آليًا. وتتجه الأبحاث إلى ما يُعرف ب"إنترنت الحواس" (Internet of Senses)، حيث سيتلقى الجمهور التجربة الإعلامية عبر مؤثرات حسية بصرية وسمعية ولمسية مدفوعة بتقنيات الجيل السادس 6G والتوليد الذكي، فيتحول الاتصال من تجربة ذهنية إلى تفاعلية شاملة. لكن هذا التقدم يصاحبه تحدًّ كبير يتمثل في الموثوقية، فمع انتشار التزييف العميق (Deep Fakes)، تزداد الحاجة إلى أن يتحول الإعلام من ناقل إلى محقق، لذا تبنت بعض الجهات الإعلامية أنظمة ذكاء اصطناعي لكشف التلاعب في الصور والفيديوهات والنصوص، وأصبح التحقق من المعلومة شرطًا للبقاء لا ترفًا مهنيًا. ومن الجوانب التقنية اللافتة، يتزايد التكامل بين البث التقليدي والإعلام الرقمي عبر معايير مثل ATSC 3.0 التي تدمج البث التلفزيوني بالإنترنت، ما يفتح الباب أمام تخصيص الإعلانات والمحتوى لكل مشاهد، وقد عُرضت في مؤتمر IBC2025 تطبيقات سحابية تعتمد على الذكاء في إدارة البث، ما يؤكد الاتجاه نحو بنى إعلامية مرنة قائمة على البرمجيات. أما العلاقة بين الإعلام والجمهور فستتحول من أحادية الاتجاه إلى تفاعل لحظي، لن يكتفي المشاهد بالمتابعة بل سيشارك في صناعة الخبر، يختار زوايا التصوير، وربما يس هم في صياغة النص عبر المنصات التشاركية، ليصبح توازن القوة الإعلامية أكثر تنوعًا ويبرز دور المؤسسات كمنسّقين للخبر لا مرسلين حصريين له. ومع اعتماد الإعلام على البيانات، تبرز قضايا الخصوصية والسيادة الرقمية كأحد أكبر التحديات المستقبلية، فامتلاك البيانات يعني امتلاك التأثير، ولهذا من المتوقع تصاعد الجهود التشريعية والتنظيمية لحماية المستخدمين وتنظيم عمل المنصات الكبرى. ما نعيشه اليوم ليس سوى مقدمة لحقبة جديدة يُعاد فيها تعريف الإعلام، وفي وطننا الغالي يتسارع هذا التحول ضمن رؤية وطنية تستثمر في الابتكار الرقمي والذكاء الاصطناعي، من كوادر مميزة وممكنات وتشريعات وبنية تحتية، والمستقبل سيكون لمن يتطور مع تطورات الإعلام، والنجاح لن يكون لمن يتمسك بأدوات الأمس، بل لمن يتكيّف مع متطلبات الغد.