في سنوات ماضية لم تبتعد كثيرًا عن حاضرنا، كانت نشرات الأخبار المسائية وجبة يومية ننتظرها بشغف، وكانت الصحف تُقرأ من الافتتاحية، وكان التركيز على الأخبار المحلية والشؤون الاقتصادية والسياسية. اليوم، تغيّر كل شيء، المحتوى الجاد يتراجع، والإعلام يجد نفسه مضطرًا لتكييف لغته ومنهجه ليتماشى مع مزاج جمهور لم يعد يرغب في التعقيد، ويركز على الفنون والرياضة، وفي الترفيه، وفي كل ما هو غير جاد! فالإعلام الرقمي فرض قوانين جديدة، تحكمها خوارزميات لا تعترف إلا بمعدلات التفاعل. تشير تقارير مؤسسة "Reuters Institute" لعام 2024 إلى أن 55 % من مستخدمي الإنترنت في الشرق الأوسط لا يثقون بالأخبار السياسية، ويفضلون الابتعاد عنها لصالح المحتوى الرياضي أو الفني، مقابل 38 % فقط، وفي السعودية، أوضح استطلاع أجرته "هيئة الإعلام المرئي والمسموع" عام 2019، أن أكثر من 64 % من المتابعين عبر المنصات يفضلون مشاهدة المحتويات الرياضية والترفيهية على المواد الإخبارية الجادة. وسائل الإعلام استجابت، فالتلفزيون لم يعد تركز نشراتها للسياسة والاقتصاد، بل أدرج "الترفيه" كركيزة أساسية، وقنوات إخبارية بدأت تعتمد على مشاهد من كرة القدم أو لقاءات مع صانعي المحتوى ضمن نشراتها، ففي "تيك توك"، تجاوزت التفاعلات على محتويات الرياضة والترفيه مجتمعة حاجز 70 % من إجمالي التفاعل في المملكة، وفقًا لتقرير "we are social". ما الذي حدث؟ ببساطة في عصر السرعة وتعدد المنصات، أصبح الجمهور يريد المعلومة السريعة، والمشهد المشوّق، والقصص البسيطة التي لا تحتاج إلى تفكير، فلم يعد يبحث عن العمق والتفكير بل عن الإبهار والمتعة. لكن هذا له آثاره الجانبية ومن أهمها صناعة الوعي، وإذا ما تخلّى عن الجدية والطرح التحليلي من أجل تحقيق نسب المشاهدة فقط، فهو يخلق فراغًا معرفيًا كبيرًا، يُملأ غالبًا بمصادر هامشية أو غير موثوقة. فالمؤسسات الإعلامية تركت موقعها كمصدر للمعلومة الجادة، وأصبحت تتسابق وراء الترند، وتعيد نشر المواضيع "المثيرة" حتى وإن كان بلا قيمة، وحتى نمارس جلد الذات لمجتمعنا ففي الولاياتالمتحدة، انخفضت معدلات متابعة المواضيع السياسية بنسبة 27 % خلال عام واحد فقط، وفق تقرير نشره موقع Axios عام 2023. الإعلام إذًا لم يتغيّر وحده، بل تغيّر نتيجة ضغط الجمهور. بل يستجيب لما يريده المتلقي، كي يضمن البقاء في السوق، لكنه يفقد تدريجيًا قدرته على التأثير الحقيقي، لأن التأثير لا يُقاس فقط بعدد المشاهدات، بل بقدرة المحتوى على توسيع الأفق، وتحفيز التفكير، وصناعة رأي عام واعٍ.