تطرّقنا في مقالات سابقة إلى حقيقة يعرفها كل من عايش الملك سلمان بن عبدالعزيز- حفظه الله-، وهي أنه رجل دولة من طراز نادر، صاحب مدرسة فريدة في الإدارة، وصاحب بُعد نظر استثنائي في معرفة الرجال وتقدير الكفاءات. ولذلك، حين وقع اختياره على الأمير محمد بن سلمان ليتولى ولاية العهد، لم يكن ذلك نابعًا من عاطفة أو قربٍ أبويّ كما كتبت بعض الأقلام الغربية، بل كان اختيارًا محسوبًا بدقة لرجل الدولة الأجدر والأكفأ لقيادة مرحلة التحول الكبرى في تاريخ المملكة. لقد أكدنا مرارًا وتكرارًا أن إدارة الحكم في عهد الملك سلمان لا مكان فيها للمجاملات، وأن مصلحة الدولة هي المعيار الوحيد في صناعة القرار. وليس سرًا أن الملك، قبل أن يتولى العرش، كان مشرفًا على شؤون الأسرة المالكة ويعرف جيدًا قدرات كل فرد فيها؛ ولهذا كان اختياره لولي العهد مبنيًا على معرفة دقيقة بالإمكانات، وليس تفضيلًا مبنيًا على القرب أو العاطفة، وجميع أبنائه مقربون منه، لكن القيادة تقتضي الحكمة، (الحكم لا يوجد فيه مجاملات!) والحكمة اختارت محمد. أعدنا طرح هذا الموضوع اليوم في ضوء ما ورد في كتاب جديد للصحفية الأمريكية المخضرمة كارين إليوت هاوس، رئيسة تحرير صحيفة وول ستريت جورنال سابقًا، بعنوان «الرجل الذي سيغدو ملكًا: محمد بن سلمان». الكتاب يرصد سيرة ولي العهد بأسلوب غربي، لكنه يعكس حقيقة لطالما أكدناها في كتاباتنا: أن سمو الأمير جاء من مدرسة سلمان، وأن اختياره لم يكن صدفة او عاطفة، بل تعبيرًا عن بصيرة ملك. ومن العبارات اللافتة التي وردت في الكتاب، حين سُئل الأمير عبدالله بن بندر، وزير الحرس الوطني، عن سبب اختيار الملك سلمان لابنه محمد، أجاب قائلًا: «صاحب الصقر يعرف أفضل صقوره». وهذه العبارة تختصر ما كررناه مرارًا: إن هذا الاختيار كان اختيار دولة، لا مجاملة عائلية. لقد كتبنا كثيرًا من المقالات خلال السنوات الماضية عن الأمير محمد بن سلمان، سواء في ظل الحملات الإعلامية الظالمة ضده، أو خلال الإنجازات التي تحققت في زمن قياسي لأننا نراه أمل ومستقبل وطن !. ورؤيته وبرنامجه الإصلاحي لم يغيرا المملكة فقط، بل غيّرا وجه المنطقة وأحدثا تأثيرًا واضحًا في ميزان العلاقات الدولية. أصبح من المسلّم به، شرقًا وغربًا، أن للأمير محمد أثرًا هائلاً وإيجابيًا سواء على المستوى المحلي أو العالمي. بصفة شخصية، فإنني أكنّ تقديرًا خاصًا للملك سلمان منذ الصغر، كما يفعل معظم أبناء الرياض، فقد كبرنا تحت ظله حين كان أميرًا لها، وتعلمنا منه الحكمة والانضباط والصدق في العمل العام، وما زالت ذاكرتنا مليئة بصورته وهو يراعي ويخدم الجميع وهو جالس في قصر الحكم بشكل يومي، ومنذ دخولي مجال الإعلام قبل عقود، والكتابة عنه كانت دومًا ممزوجة بالإنجاز وبالعاطفة، وأهل الرياض يعرفون مكانته في قلوبهم، فهو شيخنا وكبيرنا وباني نهضتنا. أبو فهد والرياض توأمان لا يفترقان من يحب الرياض يحب أبو فهد والعكس صحيح من يحب أبو فهد يحب الرياض. ولكن حين كتبنا عن الأمير محمد، أردنا أن تكون مقاربتنا احترافية عقلانية وعملية، فالإنجازات تتحدث بصوت عالٍ وواضح أكبر من أي مقال. وقلنا سابقًا، ونكرر اليوم، إن ما يحدث في المملكة من تحولات هو أكبر عملية تغيير في تاريخ الدولة السعودية منذ أكثر من 300 عام. أما كارين هاوس، وهي صحفية غربية لا تعرف المجاملة، فقد ذهبت إلى ما هو أبعد حين كتبت أن تأثير محمد بن سلمان هو الأكبر في التاريخ العربي والإسلامي منذ فتح فارس، وأنه يسعى لرفع مكانة العرب والسعوديين إلى مصاف الأمم المتقدمة. الميزة الكبرى التي تميز الأمير محمد بن سلمان – برأينا الشخصي المتواضع – هي قدرته على التعامل مع قادة العالم بأسلوب سياسي ذكي ومتكيف، يدرك الفوارق الثقافية والشخصية في زعماء الدول، ويضبط أسلوبه بما يتناسب مع كل شخصية. فهو رجل ثابت المبادئ داخليًا، لكنه مرن الأسلوب السياسي خارجيًا. من الخطأ أن يظن البعض أن السياسي الناجح يجب أن يعامل الجميع بنفس الطريقة فهذا جمود؛ لا يمكنك أن تخاطب ترمب المندفع بنفس طريقة التعامل مع بوتين الغامض، أو الرئيس الصيني الشرقي المنضبط كما تخاطب الرئيس الفرنسي المتحرر. حتى داخل المنطقة العربية، تختلف طبيعة التعامل بين الشخصية الخليجية وتقاليدها وعادتها مقارنة بنظيرتها العربية. وهنا يبرز ذكاء الأمير السياسي واتزانه العميق. أما فيما يخص رؤية المملكة 2030، فإننا نعيد التأكيد – للمرة العاشرة – على أن أعظم ما يميزها أنها رؤية ديناميكية مرنة، قابلة للتحديث والتطوير والتعديل بما يواكب متغيرات الزمن، وليست رؤية جامدة أو مقفلة على نفسها، وهذه الديناميكية هي جوهر نجاحها. فإذا كانت خطط المشاريع الصغيرة تتغير وتتطور مع الوقت، فكيف لا تتغير وتتطور رؤية بحجم إعادة تشكيل وطن بأكمله، بل وإعادة رسم ملامح منطقة بأسرها؟ إن سمو الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – يدرك هذا جيدًا، وصراحة المسؤولين الكبار كافة الذين باتوا يؤمنون بأن التفكير المستمر، والمراجعة، والتطوير هي أدوات جوهرية في مسار تنفيذ الرؤية. ولعلني أستحضر هنا واقعة من مقال كتبناه سابقًا، ذكرنا فيه أن «الرؤية ليست كتابًا منزلًا»، وهي عبارة أردنا بها التأكيد على مرونة المشروع وواقعيته، غير أن بعض الزملاء في الصحيفة آنذاك تحفظوا على العبارة خشية أن تُفهم خطأ، فتم تعديلها. واليوم، والحمد لله، أصبح كثير من كبار المسؤولين يستخدمون ذات العبارة – «الرؤية ليست كتابًا منزلًا» – لتأكيد أن الرؤية قابلة للتطوير والتغيير مع الزمن، بل إن هذا هو أحد أسرار نجاحها الحقيقي. أنا متفائل للغاية بتحقيق أهداف هذه الرؤية وإستراتيجياتها، خاصة في ظل استمرار الأمير محمد في قيادة مسيرتها. فهو رجل ذو تصميم عالٍ، وشغف واضح، وتركيز حاد يشبه تركيز الصقر الذي لا يحيد حتى يبلغ هدفه. ولست قلقًا على مستقبل الرؤية بسبب القيادات العليا، لكن ما قد يعيقها أحيانًا هو بعض الفئات الثانوية المتسلقة، التي تحاول ركوب موجة الرؤية بينما لا تزال تفكر بعقلية «الملف العلاقي». من المدهش أن ترى بعض هؤلاء يزينون مكاتبهم بشعار الرؤية ويتغنون بها ليل نهار، في حين أن فكرهم أحفوري، متخشب، لا يستوعب أن الرؤية مشروع متجدد، متغير، لا يقبل الجمود. وهؤلاء لا يملكون القدرة على التفكير المرن، ويخشون الشفافية لأنها تكشف عجزهم، ولذلك يحاولون التغطية على ضعفهم بالمزايدة على ثوابت الرؤية، ورفض أي تعديل أو مراجعة باعتبار أن «كل شيء على ما يرام»، بينما الحقيقة أن التطوير الشفافية هي جوهر أساسي في كل مشروع ناجح. ويجدر هنا التذكير بخطورة ذكية حاسمة قام بها الأمير محمد في مجال الشفافية عدلت ما كان شائعًا سابقًا، حيث لم يكن يُسمح حتى بالتطرق إلى سلبيات الموظفين في بعض الوزارات السيادية، بحجة أن ذلك «يمس هيبة الوزارة». أما اليوم، فقد تغير المشهد كليًا مع قيادة الأمير محمد، حيث باتت الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد نهجًا مؤسسيًا معلنًا، ونرى بأعيننا محاسبة الفاسدين في وزارات سيادية مثل الدفاع، والخارجية، والداخلية دون أن يُنظر للأمر على أنه مساس بالهيبة، بل تعزيز لها، لأن الفاسد يُمثل نفسه، لا وزارته. قد يزعم البعض أن هذه العقليات الجامدة لا تزال متركزة في المناصب المتوسطة وما دون الوزارية، وأنها لا تؤثر فعليًا، لكن الحقيقة أن الرؤية تشبه تروس الساعة؛ كل ترس – كبيرًا كان أو صغيرًا – لا بد أن يعمل بتناغم واتساق، وإلا تباطأت حركة الزمن. ولذلك، فإن إزالة هذه العقليات المتكلسة من التروس المتوسطة والصغيرة سيُسرّع من تقدم الرؤية ويُحسّن كفاءتها. وثمة فئة أخرى ترهق سرعة الرؤية نُطلق عليها مجازًا «القافزون مع الرؤية»، وهم أولئك الذين لا يحملون موهبة حقيقية للإنجاز، لكنهم يُتقنون القفز بين المناصب، من وزارة إلى أخرى، ومن هيئة إلى جهاز، دون أن يتركوا أثرًا يُذكر في أي موقع مروا به. سيرهم الذاتية مليئة بالمناصب، لكنها خاوية من الإنجازات، بل إن بعضهم لا يثبت في موقع واحد كي لا يُسأل عمّا أنجز فيه. إنهم يشبهون اللاعب الذي يركض في كل اتجاهات الملعب، لكنه لا يُسجل أي هدف! ومن الجميل، وسط كل ذلك، أن يأتي بعض الإنصاف من صحفيين غربيين مثل كارين هاوس، رغم أن سمو الأمير محمد بن سلمان ليس في حاجة لهذا الإنصاف، فحجم إنجازاته ومكانته يتحدثان بصوت أعلى من أي صحفي أو كاتب. نعم، نحن أبناء هذا الوطن وقد يتهمنا البعض بالمجاملة عندما نكتب الحقيقة حتى لو بالأرقام، لكن بعد حملة شرسة ظالمة استهدفت سموه، آن الأوان أن تظهر الحقيقة وتُقال، ويعرف العالم أي قائد استثنائي يقود المملكة والمنطقة وذو تأثير إيجابي عالمي، ويُعيد رسم ملامح الحاضر والمستقبل برؤية غير مسبوقة.