حصلت هذه القصة مع وزير عربي كان في زيارة خارجية ضمن فعالية مهمة تنظمها وزارته في بلد أوروبي، كان أحد أصدقائي من ضمن الوفد ومن أكثر منسوبي الوزارة نشاطاً وعطاء وتفانياً في عمله، ولطالما كان يتلقى الإشادات والشهادات من الوزير وقيادات الوزارة، وصادف في تلك الزيارة أن حصل خطأ تنظيمي فاستشاط الوزير غضباً وراح يصيح في ذلك الصديق الذي وجده أمامه ويلقي بالملامة عليه أمام الجميع، تمالك ذلك الصديق الحكيم أعصابه ولم يرد على الوزير وعالج المشكلة رغم أنه لم يكن المتسبب فيها بل أشخاص آخرون من فريق الوزارة، وبعد انتهاء الفعالية بنجاح ووسط احتفالات الجميع تقدم ذلك الصديق للوزير ليلقي عليه السلام ويسلمه خطاب الاستقالة وطلب الإعفاء من منصبه في الوزارة، انصدم الوزير من القرار وأخبره معاونوه أن الخطأ التنظيمي الذي حصل لم يكن مسؤولية ذلك الصديق، وما هي إلا لحظات ويتفاجأ صديقي بالوزير يتحدث بأعلى صوت بالاعتذار له أمام الجميع وشكره على تعامله المهني وجهوده المتميزة مع رفض الاستقالة، لم يجد ذلك الصديق نفسه إلا وهو يقبل رأس الوزير الذي كان يكبره في السن سنوات كثيرة، ومع ذلك لم يتردد في الاعتذار بكل شجاعة والتراجع عن خطئه. ذكرتني هذه القصة بما يروى عن حكيم قيل له: "إن فلانًا يمشي على سطح الماء"، فأجاب: "هذا ليس بالأمر العجيب، فحتى لوح الخشب يطفو على الماء"، ثم قالوا له بعدها: "إن فلانًا يطير"، فقال لهم الحكيم: "هذا أيضًا ليس مهماً، فحتى الذباب يطير"، فسأله الناس: "إذن، ما هي المعجزة؟" فأجاب الحكيم قائلاً: "المعجزة الحقيقية هي أن تسير بين الناس وتتحمل أذاهم دون أن تفقد مبادئ الأخلاق، فلا تكذب ولا تسرق، ولا تخون ولا تغش، ولا تغتاب، ولا تجرح مشاعرهم، ولا تتدخل في شؤونهم، ولا في حياتهم الخاصة، فالمعجزة الحقيقية هي أن تكون إنسانًا". في الحقيقة، تبدو الكلمات سهلة رغم أن تطبيقها على أرض الواقع في غاية الصعوبة، فالمدير إن كان لين الجانب رحيم القلب راقياً في تعامله قد يتم اتهامه بأنه ضعيف وغير حازم ولا يستطيع ضبط الأمور أو تحقيق المستهدفات المطلوبة. وبالمقابل، إذا كان حازماً صارماً متابعاً بكل قوة قد يتم اتهامه بالظلم والقسوة والتسلط وأنه السبب في استقالات الموظفين وهروب الكفاءات. ولعل الفيصل في هذا الأمر هو التوازن وحسن اتخاذ القرار حسب الموقف، وخير قدوة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي كان الرحمة المهداة في كثير من المواضع، وكانت لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يرضى الظلم والتجاوز حتى من أقرب الأقربين. باختصار، النجاح في القيادة يتطلب القوة والحزم والعزم، لكنه في الوقت نفسه لا يستقيم بدون الحلم والرحمة والحكمة، ومن المحال أن يزعم قائد أنه بلا أخطاء، لكن ما يميز القائد المعجزة هو الشجاعة والقدرة على الاعتراف بالخطأ ومعالجته دون خوف أو تردد لأن ذلك لن يهز صورته بل سيرفع قدره ويثبت قوته وثقته بنفسه ويغرس في فريقه قيم الصدق والولاء والعمل بكل شغف وحماس خلف قائد عظيم.