خليجُنا واحد؛ نعم، أنا من جيلٍ شاهد الأعمال الكويتية في طفولته، وتنفس الأطياب العمانية، واتصل بالريادة الإماراتية، وابتهج بالوفرة القطرية، واطمأن بالجسور البحرينية. ولم أرَ يومًا وطني إلا ذلك الامتداد الطبيعي والشقيقة الكبرى، المملكة العربية السعودية، الظل الوارف الذي يجمع ولا يفرّق. اليوم نكون أمام حاجة لإعادة قراءة تجربة مجلسنا؛ إذ يمثل مجلس التعاون لدول الخليج العربية تجربة إقليمية تتسم باستمرارية لافتة منذ تأسيسه عام 1981، مع اعتماد آلية رئاسة سنوية تقوم على التناوب الأبجدي بين الدول الأعضاء، بما يعكس رغبة واعية في تحييد الحساسية السياسية وترسيخ المساواة الإجرائية. وتكتسب هذه الآلية دلالة إضافية عند ربطها بجذور الفكرة التي سبقت التأسيس، كما في الحوار الذي أجراه الصحفي الخبير عثمان العمير مع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -رحمه الله- في قصره بأبوظبي عام 1974، حيث طرح الشيخ زايد مبكرًا فكرة عقد قمة خليجية برعاية سعودية. إن استحضار هذا الحوار يتيح فهمًا أعمق لمسار المجلس، بوصفه مشروعًا سياسيًا تشكّل قبل مؤسساته، ويأتي قبيل القمة السادسة والأربعين المقرر عقدها في المنامة في الثالث من ديسمبر. تعكس التطورات الأخيرة داخل المجلس انتقالًا تدريجيًا من التنسيق العام إلى تبني خطوات أكثر عملية، وهو ما يتجسد في إطلاق المرحلة الأولى من نظام النقطة الواحدة، الذي سيطبق بشكل تجريبي بداية بين البحرين والإمارات، بما يتيح إنهاء إجراءات السفر من نقطة موحدة دون تكرار التدقيق. يعد هذا النظام مؤشرًا على مستوى متقدم من الثقة الأمنية والجاهزية التقنية، ويمثل نموذجًا قابلًا للتوسع ليشمل بقية الدول الأعضاء. كما تشير الاجتماعات الوزارية المكثفة والتحركات الدبلوماسية المتزامنة إلى رغبة في بناء أطر تعاون تتعامل مع قضايا الأمن الإقليمي، والطاقة، وسلاسل الإمداد، والتحول الرقمي. يأتي ذلك كله في إطار الاستعداد للقمة السادسة والأربعين، التي ينتظر أن تحدد ملامح المرحلة المقبلة من العمل الخليجي المشترك. بلا شك أن المنظومة الخليجية كغيرها من العالم تواجه بشكل مستمر مجموعة من التحديات البنيوية التي تستلزم مقاربات مؤسسية أكثر تكاملًا. أبرز هذه التحديات يتمثل في تفاوت الهياكل الاقتصادية، وتباين أولويات السياسات الخارجية في بعض الأحيان، وتعدد مصادر التهديدات الإقليمية. كما تشكل الفجوة بين طموحات التكامل مثل السوق المشتركة والربط التشريعي ومستويات التنفيذ العملي عائقًا أمام الاندماج الحقيقي. لمعالجة هذه التحديات، تحتاج دول المجلس إلى تعزيز الشفافية، وتطوير آليات صنع القرار، وتفعيل حوكمة قائمة على مؤشرات أداء، مع توسيع نطاق المشاريع المشتركة في مجالات النقل، والطاقة، والأمن السيبراني. مثل هذه الخطوات من شأنها تقليل التباينات وتوفير بنية مؤسسية أكثر قدرة على الاستجابة للمتغيرات وتعزيز الاستدامة الإقليمية. يتيح المسار الممتد لأربعة عقود تقييمًا واقعيًا لدرجة نضج تجربة مجلس التعاون؛ فالمجلس تمكن من الحفاظ على إطار سياسي مستقر رغم التباينات، وتبنى في السنوات الأخيرة خطوات عملية تزيد من ارتباط المواطن بإنجازاته، كما يظهر في مبادرات التنقل الموحد. ومع بروز أصوات تعيد طرح أسئلة الهوية ومعنى الانتماء الخليجي، تصبح قيمة المجلس مرهونة بقدرته على تحويل الرمزية التاريخية إلى أثر ملموس في الحياة اليومية وتعزيز الثقة المجتمعية بالمشروع المشترك. إن القمة السادسة والأربعين تمثل فرصة لإعادة تحديد اتجاهات التكامل الإقليمي، بما يحقق توازنًا بين الحفاظ على السيادة الوطنية وتوسيع آفاق التعاون، ويعيد صياغة السرد الخليجي بما يلائم تحديات العقد القادم.