مفهوم "الأمة" بمعناه التجريدي الذي يتجاوز الحدود الجغرافية ليعبر عن "الفكرة" وليس المكان يجعل من "المسجد" حالة فلسفية تتجاوز المفهوم المادي العمراني إلى مسألة الارتباط والانتماء إلى فكرة أسمى وأعلى من مجرد الارتباط بمكان محدد، لكنها لا تلغي هذا الارتباط المكاني بل تعززه وتعطيه مكانة عالمية، أي تجعل منه مكانًا يتآخى مع كل الأمكنة في العالم.. العالم يتجه بسرعة فائقة كي يكون قرية واحدة يعرف الجميع بعضهم بعضا ويتشاركون كثيرا من المفاهيم وأنماط الحياة، فلم يعد هناك فرصة للانعزال والابتعاد عما يدور حولنا، ولعل هذا أكثر ما لفت نظر بعض الزملاء في المؤتمر العالمي الرابع الذي عقد في إسطنبول قبل ثلاثة أسابيع تقريبا، فبعد أن نشرت هذه الصحيفة الغراء مقالا حول المؤتمر وصلتني بعض الرسائل تشير إلى أهمية كتابة مقال منفصل عن "المنظمة العالمية لعمارة المساجد" التي تم الإعلان عنها في المؤتمر وعن دورها المستقبلي، ولماذا نحتاج مثل هذه المنظمة في الوقت الراهن؟ في البداية يجب أن نذكر أن الحدود القديمة للعالم والتوزيع البشري الذي كان مرتبطا بها بدأ يتلاشى، أي أن العالم اليوم هو مزيج من الأجناس والأعراق المختلطة في كل بقاع العالم، فالغرب لم يعد غربا والشرق لم يعد شرقا. يتبع ذلك التباسا شديدا في مفاهيم الجغرافيا التي كانت تسهم في تحديد أشكال الثقافات الإنسانية ومواقعها، فهذه الحدود تواجه تحديات كبيرة، لا أعتقد أنها ستصمد أمامها. ربما هذا ما جعل من التفكير في تأسيس منظمة تعنى بالمساجد في هذا العالم المتغير المتبدل بسرعة فائقة مسألة وجودية، فإما أن تكون ضمن العالم الجديد الذي هو الآن في طور التشكل أو لا نكون؟ لقد كان ولا يزال المسجد أحد أهم القنوات "المادية" التي تحمل مخزونا فكريا وفلسفيا يعبر عن فكرة "الأمة الواحدة" التي يمكن أن تتجاوز حدود الجغرافيا وتخترق التكتلات العرقية البشرية وتخلق مفهوما جغرافيا وعرقيا مختلفا عما يتصوره العالم المعاصر. نستطيع أن نرى العلاقة الواضحة بين مفهوم الأمة وفكرة تأسيس منظمة عالمية لعمارة المساجد، فالمسجد، رغم أنه يحمل الصفة المادية، العمرانية والمعمارية، إلا أنه يعبر عن فكرة تجريدية ترابطية تحمل فلسفة "كافة للناس"، وهي الفكرة التي نعمل عليها حاليا بمشاركة الدكتور وائل السمهوري لإصدار كتاب بهذا العنوان يحتوي على مساجد القائمة القصيرة للدورة الخامسة لجائزة عبداللطيف الفوزان. مفهوم "الأمة" بمعناه التجريدي الذي يتجاوز الحدود الجغرافية ليعبر عن "الفكرة" وليس المكان يجعل من "المسجد" حالة فلسفية تتجاوز المفهوم المادي العمراني إلى مسألة الارتباط والانتماء إلى فكرة أسمى وأعلى من مجرد الارتباط بمكان محدد، لكنها لا تلغي هذا الارتباط المكاني بل تعززه وتعطيه مكانة عالمية، أي تجعل منه مكانا يتآخى مع كل الأمكنة في العالم. يبدو لي أن الاصطدام الأول مع فكرة "العالمية" بدأت من هذه المواجهة بين فكرة "الأمة" التي تحمل مفهوما تجريدا إنسانيا يجمع البشر كافة وبين "العالمية" بمعناها المعاصر الذي يبدو أنه جغرافياً يتجاوز الحدود ويسافر عبر الأمكنة. هذا التصادم بين المفهومين جعل من فكرة تأسيس هذه المنظمة تحمل مفهومين أساسيين، الأول علمي ومهني؛ فالمسجد كيان مادي وظيفي يتطلب العديد من الأبحاث والدراسات والتجارب المهنية حتى يكون مكانا قابلا للاستخدام ومريحا لمن يستخدمه، ومن جهة أخرى هناك الرابطة التي تربط بين كل المساجد في العالم، وهي رابطة "مفهومية" فلسفية، عابرة للأمكنة ولا تعترف بالجغرافيا، ولا تركز على "المادة" بقدرة ما تركز على ما تعنيه هذه المادة التي يفترض أن تعزز مفهوم الرابطة الفلسفية والفكرية لمفهوم "الأمة". نشأ التفكير في تأسيس منظمة عالمية تعنى بعمارة المساجد حول العالم منذ قرابة الثمانية أعوام، عندما بدأت جائزة الفوزان تواجه تحديات كبيرة في توثيق ودراسة المساجد حول العالم. لقد أظهرت تلك التحديات عجزا حقيقيا في مصادر المعرفة المرتبطة بالمسجد على المستوى المهني والعلمي والفلسفي، وبينت الصعوبات المتوقعة التي يواجهها المسجد، رغم أنه أكثر المباني الدينية انتشارا حول العالم فقد تجاوز عدد المساجد الأربعة ملايين مسجد، لكن في الواقع هناك عجز معرفي وعلمي يواجه هذا المبنى المهم. التحديات التي واجهت الجائزة، جعلتها تعيد تنظيم نفسها من أجل أن تكون هي المؤسسة المسؤولة عن هذه الجوانب العلمية والمهنية مؤقتا، لكن هذا لن يغني عن إيجاد منظمة عالمية مستقلة تستطيع توجيه عمارة المسجد في المستقبل ونقل تصوراته الفلسفة عن البشرية، فالمسجد يخلق مفهوم التكامل والاصطفاف البشري دون تمييز بين الأعراق، وهذا يجعل مفهوم الإنسانية العالمية التي تعزز فكرة "كافة للناس" ممكنة من الناحية العملية إذا ما استطعنا أن نخلق مؤسسة تجمع العالم حول المفاهيم الكونية التي يقدمها المسجد للبشرية. التحدي الآخر الذي واجه الفكرة هو من الذي يمكن أن يعمل على تأسيس هذه المنظمة وأين يجب أن تكون، وبالفعل بدأ التواصل مع الزملاء الأكاديميين والمهنيين حول العالم واستقر الرأي على أن تكون المنظمة مرتبطة بجامعة عالمية لكنها تجمع كل المهتمين بعمارة المساجد حول العالم. تبلورت الفكرة بشكل واضح عام 2024م عندما دعا الدكتور محمد جمال، رئيس قسم العمارة في جامعة يورك الإنجليزية، إلى اجتماع تأسيسي بطلب من أمانة جائزة الفوزان، وجمع الاجتماع مجموعة من الباحثين من القارات الخمس (الولاياتالمتحدة وأستراليا وبريطانيا والسعودية ومصر وتركيا وغيرها) وتم الاتفاق على إعلان المنظمة في المؤتمر الرابع لعمارة المسجد على أن يكون مقرها في جامعة يورك الإنجليزية وتكون متخصصة في الجوانب العلمية والفلسفية والمهنية لعمارة المساجد حول العالم. هذه الخطوة، دون شك، تعتبر بداية لعصر جديد لعمارة المساجد، فهذا المبنى الذي لم يُعطَ اهتماما عالميا يستحقه يحمل في ثناياه بذور هويتنا الوجودية؛ فهو العنوان الدائم الذي نعود له عندما تتوه بوصلتنا وتفقد اتجاهها.