المسجد كما هو يخص جماعة محددة تؤمّه كل يوم؛ هو كذلك أحد الرموز العميقة التي تُعبّر عن مفهوم الأمة في الإسلام، كونه يتجاوز الحدود الجغرافية ويصنع مفهومًا مرتبطًا برابطة الإسلام أكثر من تعبيره عن مجرد كيانات معمارية منظورة ومشاهدة.. ما الذي يدعونا إلى إعادة التفكير في عمارة المسجد في الوقت المعاصر والمستقبل؟ هذا السؤال الذي حاول أن يجيب عليه المؤتمر العالمي الرابع لعمارة المساجد في مدينة إسطنبول الذي نظمته جائزة عبداللطيف الفوزان وجامعة إسطنبول التقنية خلال الأيام القليلة الماضية (4-6 الشهر الجاري). هذا المؤتمر هو ضمن سلسلة المؤتمرات العالمية التي بدأت في تنظيمها جائزة الفوزان منذ عام 2017م، حيث بدأ في جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل ثم في كولالمبور عام 2019م وبعدها في الكويت عام 2022م وها هو يحط رحاله في إسطنبول ليناقش أحد الأسئلة المستعصية على الإجابة كون المسجد بصفته العينية والمعنوية كيانا عابرا للثقافات المحلية وناقلا للرؤى الفردية والجماعية، ومن الصعوبة إيجاد اتفاق مشترك يجمع كل هذه الأطياف على رأي واحد. لكن كان من الضرورة بمكان فتح مجالات للحوار حول كل هذه القضايا، خصوصا تلك الثقافية ذات الخصوصية المحلية التي تقاطعت معه عبر تاريخه الطويل. لقد كان مهمًا أن تُفتح كثير من القضايا المسكوت عنها فالمسجد كما هو يخص جماعة محددة تؤمّه كل يوم هو كذلك أحد الرموز العميقة التي تُعبّر عن مفهوم الأمة في الإسلام، كونه يتجاوز الحدود الجغرافية ويصنع مفهوما مرتبطا برابطة الإسلام أكثر من تعبيره عن مجرد كيانات معمارية منظورة ومشاهدة. كانت الأسئلة تدور حول هذين البعدين "المادي" بشواهده وتقنياته وأدواته التي يجب أن تُؤخذ في الاعتبار و"الرمزي" بعمقه الرابط للمنتمين والمستخدمين له بصرف النظر عن الخصوصيات المحلية الجغرافية. بدأ المؤتمر بورشة عمل استباقية (يوم 3 نوفمبر الجاري) حول المساجد في تركيا والعالم ركزت بشكل أساسي على مفاهيم أساسية حول الصورة الذهنية التي يصنعها المسجد في المجتمع المعاصر. فكيف يرى أفراد المجتمع المسجد وكيف ينقلون هذه الصورة إلى الآخر؟ ماذا يعني المسجد بالنسبة لهم، هل هو مكان للصلاة أم أن له دورا أكبر من ذلك؟ ربما كانت هذه الأسئلة هي التي حاولت أن تعيد التفكير في عمارة المساجد المعاصرة، فما الذي ينبغي على المصممين فعله وهل يستطيعون فعل شيء أم أن الأمر يتجاوز العمارة إلى قضايا أخرى؟ حاولت الأسئلة أن توازن بين الجانب المهني الاحترافي المرتبط بمهنة العمارة وأدواتها وبين الجانب الفكري/ الفلسفي الذي كان ينحى إلى تجاوز المنظور والمشاهد إلى الكامن والرمزي. لكن الورشة أرادت أن تكون عملية لا أن تنحو منحى فلسفيا تجريديا فكرست جزءا كبيرا من الوقت للإدارة والتشغيل والعوائق الكثيرة التي تعترضهما وكيف نصل إلى مفهوم معاصر لإدارة المسجد. إحدى الأفكار التي تم طرحها هي كيف يمكن أن ننقل أدلة المساجد التي طورتها السعودية إلى أن تصبح "كودا" عالميا يمكن تكييفه على المستويات المحلية؟ وكيف يمكن أن نستفيد من التقنيات المعاصرة كي نطور تطبيقات تجميع بين أئمة المساجد والمصليين الدائمين في المسجد كي يكون هناك تباحث دائم حول سد الحاجات التشغيلية. كل هذه الأفكار كانت تمهيدا لخوض غمار المؤتمر الذي تقدم له أكثر من 300 بحث من مختلف أنحاء العالم تم اختيار 100 بحث فقط لعرضها في المؤتمر وتم نشرها في كتاب من جزئين. يذكر البروفيسور محمد كيلتش (رئيس مركز أرسيكا في إسطنبول التابع لمنظمة التعاون الإسلامي) في محاضرته أن "الشكل يتبع الروحانية" لكنه يؤكد أن هناك أشكالا تجذب الروحانية، فهو يرى أن العلاقة متبادلة بين الشكل والروح. لقد كانت فلسفة الروحانية في أماكن العبادة مسألة تجريدية غامضة تتطلب الغوص في جوانبها الخفية التجريدية وتحتاج إلى معالجة متوازنة تجمع بين الجانب الفلسفي والجانب العملي، فمن المعلوم أن الروحانية هي جزء مرتبط بالإنسان الفرد فكيف يمكن أن تجسدها عمارة المسجد؟ بالطبع المؤتمر ناقش الكثير من القضايا التي لا يستطيع هذا المقال ذكرها فعلى مدة ثلاثة أيام امتدت المحاضرات من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء وأحيانا تجاوزت الوقت وعلى ثلاث قاعات متوازية في نفس الوقت وبحضور عالمي وطلابي كبير كون المؤتمر عقد في مبنى كلية العمارة في "طشكشلة" بالقرب من التقسيم، وهو مبنى أهداه السلطان سليم الثاني للجامعة في ستينيات القرن التاسع عشر ليكون "المهندسخانة" أول كلية هندسة في العالم الإسلامي، وقد كان مستشفى عسكريا أنذاك. بعيدا عن كل هذه الكثافة التاريخية التي يحملها موقع المؤتمر، كان الحضور المعرفي الذي صار يتشكل ويتطور حول عمارة المسجد هو اللافت والمؤثر، فقد صاحب الافتتاح إعلانان مهمان الأول: تأسيس المنظمة العالمية لعمارة المساجد بشراكة بين جائزة عبداللطيف الفوزان ومؤسسة المداد وجامعة يورك الإنجليزية وسيكون مقرها في الجامعة وتعنى بالجوانب العلمية والبحثية للمسجد. وثانيا إعلان المسابقة العالمية لتصميم المركز الإسلامي في مدينة تورك الفنلندية ليكون أول مسجد في فنلندا وتتبناه الجائزة. لقد طرحت أفكار يصعب حصرها من قبل متحدثين رئيسين حاولوا أن يوازنوا بين الخبرة التصميمية/ العملية والتحديات التي تواجه المسجد في كل مكان في العالم وبين الفلسفات المحلية التي عادة ما ترتبط بعمارة المسجد جغرافيا، فكما أن المسجد هو مبنى كوني؛ كذلك هو مبنى شديد الخصوصية المحلية. تحدث رفيق عزام عن المساجد في بنغلاديش وراسم بدران عن المسجد العضوي ومثنى البياتي عن الجانب الفلسفي للمسجد وصالح الهذلول عن القضايا المُلحّة التي يواجهها المسجد ومحمد جمال عن المسجد في المجتمعات غير الإسلامية وعقل قاهرة عن المساجد في شمال أميركا، وعشرات غيرهم عن قضايا عديدة حول عمارة المسجد جعل منها هذا المؤتمر محط أنظار المهتمين في العالم.