لم تكن الظواهر التي بدت تافهة يومًا مجرد تفاصيل عابرة في شريط الحياة... كانت نطفة تتحرك في رحم المجتمع وتستعد لتلد على مرآي من العيون، بينما الجميع يضحك ويستهزئ بها، أو كان يمر بها مرور الغافلين. كنا نظن ان السخرية هي سلاح الوعي، فإذا بها تتحول إلى سلاح تخدير حين فقدت وعيها، أصبح الضحك على الخراب بدل إصلاحه والتهكم على الفساد بدل مواجهته، حين يضحك الناس أكثر مما يتحركون تتحول السخرية من مقاومة إلى استسلام أنيق حيث حولت المآسي إلى عادة واللاوعي اصبح أسلوب حياة. رأينا انكسار القيم تُغلف بابتسامات، وانحدار الذوق يُسوق باسم الحرية، وتراجع الهيبة باسم الانفتاح، كنا نستهلك ما نظنه «موضة عابرة» ولم ندرِ أنها كانت بذور تحول عميق، ستنبت وحشًا يلتهم كل شيء من المعنى إلى الانتماء، بل وحتى الفكرة من ان تكون. فيما كنتم تتفرجون.. كان المجتمع يعيد تشكيل وعيه على أيدي صناع الصخب، كانت المنصات تولد، والأصوات تتضخم، والباطل يتجمل بشعارات لامعه، كنا نضحك على المقاطع، ثم نستيقظ ذات صباح لنجد ان المقطع صار واقعا وان المزاح أصبح ثقافة، وان الترند صار مرجعا أخلاقيا؟! فيما كنتم تتفرجون.. لقد صارت التفاهة نظاما قائما بذاته، يقيس النجاح بعدد المشاهدات لا بعمق الأثر، وتحول الجهل إلى بطولة، والسطحية إلى علامة قبول اجتماعي فيما كنا نتفرج نزعت من أجيالنا القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، وبين الحرية والانحلال، وبين الجرأة والابتذال. لكن المخاض لم ينتهِ بعد، فكما يولد المارد، يولد أيضًا الوعي، كل ظلام يستدعي ضوءًا ربما كانت الفوضى امتحانًا لنا جميعًا.. هل نستيقظ ونعيد ترتيب البوصلة المجتمعية؟ أم نظل متفرجين حتى نمحى من المشهد؟ إن أول مقاومة تبدأ من «الانتباه» من تلك اللحظة التي ندرك فيها أن ما يبدو تافها اليوم قد يكون بوابة الخراب غدا، أو مفتاح الخلاص إن وجهه نحو النور. فليكن السؤال الصادق والحقيقي.. بعد كل مشهد نراه هل نحن شهود على ميلاد جديد؟ أم ضحايا ولادة معكوسة..؟ ذات يوم سوف يستيقظ الجميع من شاشة سوداء؛ ليدركوا أن «الترند» كان جنازة جماعية، وأننا كنا نحمل النعش ونصفق، ففي النهاية.. لا يبتلع المجتمع أبناءه فجأة، بل حين يضحكون أكثر مما يفكرون ويبررون أكثر مما يتغيرون. لقد آن الآوان أن نكف عن التفرج فكل ظاهرة تافهة تترك دون وعي، تتحول إلى وحش اجتماعي يصعب ترويضه لا حقا، ولأن الضحك على الانحدار لا يوقفه للأسف. أول خطوة في طريق الإصلاح هي أن نتعامل مع التفاهة كقضية لا كطرف نكته. فالمجتمعات لا تسقط حين تهاجم من الخارج، بل حين تفقد حس الخطر من الداخل. وحين تتحول مشاهد الانهيار إلى تسلية يومية..عندها فقط ندرك متأخرين أننا لم نكن نعيش، بل كنا نعرض على الشاشة فيما كنا نتفرج ونبتسم.