يشهد القطاع الصحي في المملكة العربية السعودية تحولًا استراتيجيًا غير مسبوق، يعكس رؤية طموحة تقودها رؤية المملكة 2030، نحو نموذج صحي يرتكز على الوقاية قبل العلاج، وعلى تمكين الفرد والمجتمع من امتلاك أدوات الوعي الصحي، لا الاكتفاء بدور المتلقي للخدمات الطبية. لقد كانت أنظمتنا الصحية لعقود طويلة تتركز على علاج الأمراض بعد وقوعها، الأمر الذي جعل العبء المالي والبشري يتزايد عامًا بعد عام، في ظل ارتفاع نسب الأمراض المزمنة مثل السكري، وأمراض القلب، والكبد الدهني، وضغط الدم. واليوم، ومع هذا التحول الواعي، أصبحت الوقاية هي كلمة السر في بناء نظام صحي مستدام وفعّال. إن وزارة الصحة، من خلال مبادرات التحول الوطني، أعادت رسم خريطة الخدمات الصحية لتتجاوز حدود المستشفيات والمراكز العلاجية، وتتجه نحو برامج التثقيف والوقاية والكشف المبكر، إضافةً إلى تبني مفهوم "المسؤولية المشتركة" بين المواطن ومقدّم الخدمة الصحية. ولعل ما يميز هذا التحول أنه لم يعد مقتصرًا على الجوانب التنظيمية فحسب، بل أصبح ثقافة تتجسد في المجتمع ذاته، إذ نرى اليوم برامج تمارس أدوارًا فاعلة مثل الفحوص الوقائية الدورية، والعيادات المتنقلة، والحملات الوطنية لمكافحة السمنة والتدخين، والتوسع في عيادات التغذية والطب الوقائي في مختلف المناطق. وبصفتي رئيسًا للجنة الوطنية الخاصة للمجمعات الطبية، فإننا ندرك أن القطاع الصحي الخاص شريك رئيس في هذا التحول، ليس بوصفه مكملاً للقطاع الحكومي فحسب، بل كركيزة أساسية في تقديم خدمات نوعية وقائية، تعتمد على التشخيص المبكر والتثقيف الصحي وتغيير السلوك، فالمجمعات الطبية اليوم لم تعد مجرد مقرات لتقديم العلاج، بل تحوّلت إلى منصات للوعي الصحي، تستقبل المرضى قبل أن تتفاقم حالاتهم، وتُسهم في تحسين جودة الحياة، تحقيقًا لهدف وطني واضح نصت عليه رؤية 2030: "مجتمع ينعم أفراده بحياة صحية إيجابية". لقد أصبح واضحًا أن الوقاية ليست ترفًا صحيًا، بل استثمارًا وطنيًا في الإنسان والاقتصاد على حد سواء؛ فكل ريال يُصرف على الوقاية يوفّر أضعافه من تكاليف العلاج لاحقًا، ويقلل من أيام الغياب عن العمل، ويرفع من إنتاجية الفرد والمجتمع، وهنا يأتي دور التكامل بين الجهات الصحية والقطاع الخاص لتوسيع نطاق البرامج الوقائية، وتفعيل الشراكات الاستراتيجية التي تضمن وصول الوعي الصحي إلى المدارس والجامعات وأماكن العمل والأحياء السكنية، عبر مبادرات مستدامة لا موسمية. كما أن التحول الصحي لا يمكن أن يحقق أهدافه دون تحول ثقافي موازٍ في وعي المجتمع؛ فالمواطن شريك أساسي، يبدأ دوره بالالتزام بنمط حياة متوازن، وممارسة النشاط البدني، وتجنب السلوكيات الضارة، والاستفادة من الخدمات الوقائية التي تُقدّم له. ولعل الأجمل في هذا التحول أن الدولة لم تكتفِ بإطلاق الخطط، بل دعمتها بتشريعات وتنظيمات تضمن جودة الخدمة، ورفعت من كفاءة الكوادر الصحية عبر التدريب والاعتماد، وأتاحت للقطاع الخاص فرصًا أكبر للمشاركة والمنافسة العادلة في تقديم الخدمات الوقائية والعلاجية، ختامًا، فإن التحول الصحي في السعودية لم يعد مجرد عنوان لمرحلة عابرة، بل اتجاه استراتيجي دائم يؤسس لمستقبل صحي واعد، قوامه الوعي والشراكة والمسؤولية. إننا نعيش مرحلة جديدة من الفكر الصحي، تقوم على أن الوقاية مسؤولية وطنية ومجتمعية، وأن سلامة الفرد هي الأساس الذي تُبنى عليه جودة الحياة، وازدهار الوطن، واستدامة التنمية. * رئيس اللجنة الوطنية الخاصة للمجمعات الطبية