من المُلاحَظ في السنوات الأخيرة أنّ المؤسّسات التربويّة الجامعيّة، وأكاديميّيها على مستوى العالَم بشكلٍ عامّ، وفي لبنان ودنيانا العربيّة بشكلٍ خاصّ، تتسابق على التصنيفات الرقميّة، كي تُبرِز سمعتَها في هذا الزمن الذي من المُفترَض أن تكون فيه المعرفةُ حرّةً من أيّ قيودٍ، بهدف أن تتناسَب والانفتاح الشبكيّ وحريّة التعبير. لكن يتبيَّن لنا أنّ هذه الحريّة المُفترَضة، وهذا الانفتاح يَتبعان ثقافةَ الرقم أيضاً، وتحوُّلَ الفضاء المعرفيّ إلى سباقٍ محكوم بالأرقام. لقد أصبح البحثُ العلميّ فاقداً لقيمته المعرفيّة الذاتيّة، ليس من خلال قياس العُمق الفكري ولا بنسبة أثره على المُجتمع، بل من خلال تحجيم المعرفة إلى مؤشّراتٍ كميّة محدَّدة متعلّقة بنسبة الاقتباسات والاستشهادات المرجعيّة وبمعامل التأثير (Impact Factor) وبمؤشِّر «سكيماغو» لترتيب المجلّات العلميّة ومؤشّر هيرش (h-index). زِد على هذا وتلك ما تبيّنه بعضُ المنصّات ك«غوغل سكولار» و«ريسرش غيت» و«أكاديميا». هذه الأدوات التي بَرزت بهدف تنظيم التقييم العلمي، أصبحت أدوات ضغطٍ تتحكّم في سياسة الجامعات، وتَدفع إلى مُمارَساتٍ غَير معرفيّة تُسهِم في توجيه المَسارات البحثيّة وأولويّات الباحثين. هذه المُمارسات التنافسيّة فتحتِ الأبوابَ أمام ما يُمكن نعْتُه ب«الفساد المَعرفي». مُمارسات تؤدّي إلى إعادة تدوير المقالات العلميّة، وفي الوقت نفسه تَفتح البابَ أمام الانتحال الأكاديمي، إضافةً إلى إدراج أسماء متعدّدة على المقال الواحد، مع ترتيب أولويّة هذه الأسماء عَبْرَ تبادُل الأدوار في مَوقع الباحث الأوّل، حيث يُقدَّم كلُّ اسمٍ في الصدارة بحسب جِهة النشر، بهدف تضخيم الإنتاج الكمّي للمقالات على حساب المعايير الأخلاقيّة والرصانة العلميّة. انطلاقاً من هذه المُمارسات، هل يُمكن للمعرفة أن تُحافِظ على معناها في عالَمٍ يَختزلها إلى رقم؟ هذه الظاهرة عالَميّة، إذ تُشير بعض الإحصاءات إلى أنّ عدد المقالات المُفهْرَسة في قواعد البيانات العالميّة مثل سكوبوس (Scopus) وويب العلوم (Web of Science) ارتفعَ بأكثر من 50% بين عامَيْ 2016 و2022، ليَقفزَ من 1.9 مليون إلى 2.8 مليون مقالٍ سنويّاً بحسب بعض المصادر المرجعيّة للمعرفة التقنيّة والعلميّة. وكما هو الحال مع العديد من الأمور المتعلّقة بالإنتاج، ففي الصين مثلاً نُشِر في العام 2023 أكثر من مليون مقال، تَلتها منافِستاها عالَميّاً، الولايات المتّحدة والهند. في المحصّلة، إنّ معظم الجامعات العالَميّة أصبحت تتَسابق لتحسينِ ترتيبها في التصنيفات الدوليّة مثل شنغهاي (Shanghai) وQS (التصنيف الأكاديمي لجامعات العالَم»، وهذا ما يؤدّي إلى بروزِ واقعٍ مُغاير للفكر من خلال هذا السباق وراء الكميّة على حساب النوعيّة، وباتَ النشرُ مَهما كانت قيمتُه هَدفاً في ذاته، لا وسيلةً لنقْلِ المعرفة كما من المُفترَض به أن يكون. بروتوكولَ التقييم القياسي هذا الإشكاليّات النّاجمة عن المؤشّرات المتعدّدة ليست مُحايدة كما يُحاول البعضُ أن يقنعنا بها، فهي ليست مجرّد أدوات قياس، وإنّما هي آليّات سلطة تُعيد تشكيل خريطة المعرفة. وانطلاقاً من هذه الرؤية، فإنّ هذه الأدوات تُعاني تحيُّزاتٍ بنيويّة عميقة مرتبطة بالهيْمَنة الثقافيّة، بخاصّة من خلال سلطة اللّغة الإنجليزيّة. ومن ثمّ، فإنّ هذه المُمارسات سيَزداد تأثيرُها لجهة تهميش الإنتاج العلمي باللّغات الأخرى، ومنها العربيّة، وستتحوَّل المعرفة إلى خطابٍ آحاديّ اللّغة والتوجُّه والتفكير. من ناحيةٍ مُوازية، أَصبح السعي وراء التصنيفات الدوليّة يؤدّي دَوراً محوريّاً في إقصاء العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة لمصلحة العلوم التطبيقيّة التي يُنظر إليها من قِبَلِ أصحاب القرار والقائمين على البحث العلمي بوصفها أكثر إنتاجيّة ماديّاً ومعنويّاً، فضلاً عن قدرتها على تحقيق معدّلاتِ اقتباسٍ أسرع. وتُفضي هذه المُقارَبة الاختزاليّة إلى إضعافِ الفكر النقدي في المشهد الأكاديمي نتيجة قصور الرؤية لدى القائمين على البحث العلمي وأصحاب القرار في الإدارة التربويّة. تبعاً لذلك، إنّ هذا التنافُس على سلّم الأرقام سيكون له ما يُعرف ب«تأثير ماثيو» (Matthew Effect) في السباق الأكاديمي، حيث يزداد الغنيّ غنىً معرفيّاً، ويظلّ الفقير فقيراً. فالباحث الذي يَمتلك شهرةً أكبر ويَنتمي إلى مؤسّسةٍ شهيرة سيَحصل على مزيدٍ من الاقتباسات والتمويل، حتّى ولَو كانت جودة عمله أقلّ أو متساوية مع غيره، بينما الباحث غير المعروف أو قليل الشهرة سيظلّ على هامش الاعتراف به مهما كانت أفكاره مُبتكَرة. ولا يُمكن إغفال أنّ العديدَ من الباحثين باتوا مولَعين بثقافة «التريند» التي أَفرزتها وتفرزها الثغراتُ التقنيّة. هكذا تتحوَّل المعرفةُ إلى اقتصادٍ رمزي، حيث الشهرة أصبحت هي رأس المال، والاعتراف عُملته، والمؤشّرات سوق مفتوحة، لا وجود للقيمة الفكريّة فيها، بل إنّها تَتبع منطق التراكُم العَددي. ومَن يَملك يبدأ من نقطة قوّة، ومَن لا يَملك يظلّ في دائرة التهميش. وهذا ما يَدفع للتساؤل: هل المؤشّرات هي مَن تقيس العِلم أم إنّها تُعيد إنتاج السلطة في لباسٍ رقمي؟ وهل الدول جميعها تتعامل مع هذه المسائل بالآليّة ذاتِها أم إنّ ثمّة دولاً تَعمل على الحدّ من هذه الهيْمَنة المعرفيّة؟ ففي الوقت الذي تتسابق فيه جامعاتُ العالَم نحو التصنيفات، هناك دولٌ أوروبيّة اختارتْ طريقاً مُختلفاً. في فرنسا أَعلنت جامعة السوربون انسحابها من تصنيف «مؤسّسة تايمز للتعليم العالي» بدءا من العام 2026 ردّاً على ما تعتبره الجامعة «عبوديّة الأرقام». ألمانيا، إلى جانب النمسا وسويسرا ودول الشمال الأوروبي، تَعتمد التقييمَ النَّوعي عَبْرَ لجانٍ عِلميّة مستقلّة ومُراجَعة الأقران عوضاً عن اللّهاث وراء مؤشّرات مثل سكوبوس وويب العلوم، بحيث تكون الأرقام أداةً مُساعِدة لا معياراً حاسماً. أمّا هولندا، فتتبنّى بروتوكولَ التقييم القياسي الذي يركِّز على جودة البحث والتأثير الاجتماعي، بعيداً من سباق تصنيفات شنغهاي أو تصنيف «كيو إس» العالمي للجامعات (كواكاريلي سيموندز Quacquarelli) Symonds QS. هذه النماذج، التي وثَّقتْها تقاريرُ المؤسّسة الأوروبيّة للعلوم (European Science Foundation) ومنظّمة التعاوُن الاقتصادي والتنمية (OECD)، تؤكِّد أنّ هناك بدائل واقعيّة لثقافة «المؤشّرات»، وتَفتح البابَ أمام سياساتٍ أكثر توازُناً بين الكمّ والنَّوع. تراجُع الأبحاث العلميّة باللّغة العربيّة على النقيض من ذلك، تُواجِه الجامعاتُ العربيّة ضغوطاً متزايدة لدخول التصنيفات العالميّة، حيث يُنظر إليها كرمزٍ للتقدُّم الأكاديمي وجاذبيّة الاستثمار، وهذا ما يَدفع بالمؤسّسات إلى الاعتماد على مؤشّراتٍ كميّة، لأنّها أدواتٌ جاهزة وسهلة القياس، في ظلّ غياب أنظمة تقييم وطنيّة قويّة تَعتمد على مُراجَعة الأقران. إضافةً إلى ذلك، تَرتبط الترقيات الأكاديميّة غالباً بعددِ المقالات المنشورة في مجلّاتٍ مُفهرَسة عالَميّاً، ما يُعزِّز ثقافةَ الكمّ على حساب النَّوع. كما أنّ ضعفَ البنية التحتيّة البحثيّة الإقليميّة، وغيابَ قواعد بيانات باللّغة العربيّة (باستثناء «أرسيف ARCIF» الذي لا تَعتمده بعض الجامعات العربيّة كمَرجع) يَجعلان الجامعات أكثر تبعيّة للمعايير الخارجيّة، بينما يُستخدَم الترتيب العالمي أداةٍ سياسيّة ورمزيّة لإظهار «التقدُّم»، حتّى لو كان ذلك على حساب استقلاليّة البحث العلمي. ففي بلدٍ مثل لبنان، كما في العديد من البلدان العربيّة التي تضمّ جامعاتٍ خاصّة، تتجلّى هذه الإشكاليّة بشكلٍ حادّ. الجامعات الخاصّة بمُجملها، الغنيّة والفقيرة منها، تَتبع نظامَ السوق العالمي، التصنيفات العالميّة. وبالنسبة للقائمين عليها، لا تَضع المعرفةَ في المرتبة الأولى من ضمن أولويّاتها، بل تَهدف إلى جذْبِ الطلّاب والتمويل الخارجي. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ غياب سياسة وطنيّة واضحة لتقييم البحث العلمي يؤدّي إلى تركيز الاهتمام على النشر في مجلّاتٍ مُفهرَسة عالَميّاً باللّغة الإنجليزيّة، والفرنسيّة أحياناً، حتّى لو كان ذلك بعيداً عن أولويّات المُجتمع اللّبناني والمُجتمعات العربيّة. هذا النشر بلغةٍ تَختلف عن لغة المجتمع ولغة القوى العاملة لن يؤدّي إلى إنتاج معرفة، فالمعرفة بكلّ ما لها من تَبعات على المستويات كافّة لا تُنتَج بلغةِ الغَير! هذا الواقع يَطرح السؤال: هل يُمكن للبلدان العربيّة أن تُطوِّر أنموذجاً خاصّاً يُوازِن بين الانخراط في النظام العالَمي والحفاظ على استقلاليّة المعرفة أم أنّ سباق الأرقام سيَظلّ يَفرض منطقَهُ على الجميع، خصوصاً في ظلِّ تراجُعِ أعداد طلّاب العلوم الإنسانيّة في بعض الجامعات التي ما زالت تُحافِظ على صدقيّتِها العلميّة؟ هل من آثارٍ معرفيّة واجتماعيّة لذلك؟ الإجابة نعم. إنّ هذه الديناميكيّة تَخلق ما يُمكن تسميته «التآكل المعرفي» المتعلّق بتراجُع التنوُّع اللّغوي والثقافي. فاللّغة العربيّة تتراجَع في نشْرِ الأبحاث العلميّة لمصلحة الإنجليزيّة، ما يُضعِف قدرةَ المُجتمعات على إنتاج معرفةٍ مُرتبطة بسياقها. والتآكُل المَعرفي متعلّق أيضاً بتسليع المعرفة، إذ إنّ البحث العلمي يتحوَّل إلى سوقِ اقتباسات، حيث يُصبح الهدف هو تحسين المؤشّرات لا خدمة المجتمع. ومن ثمّ يؤدّي ذلك إلى إفقارِ النقاش العلمي من خلال التركيز على الكمّ الذي يُضعف جودة الحوار الأكاديمي، ويُقلِّل من الابتكار الفكري. أمّا الحلّ فلا يكمن في رفْضِ المؤشّرات، بل في إعادة ضبْط استخدامها. ومن هذه الناحية من المُفترض إعادة الاعتبار للتقييم النوعي عبْرَ لجانٍ علميّة مستقلّة، تُركِّز على جودة المحتوى وأثره. من ناحيةٍ ثانية، من المُفترَض تطوير مؤشّرات هجينة، تَجمع بين البيانات الكميّة والتحليل النوعي. ومن ناحية ثالثة، من المُفترض إنشاء قواعد بيانات إقليميّة تَدعم النشر باللّغة العربيّة، وتَضمن الاعترافَ الدولي بها. أخيراً، من المُفترَض تعزيز ثقافة أخلاقيّات النشر لمُواجَهة المُمارَسات الانتهازيّة مثل تقسيم الأبحاث أو النشر في مجلّاتٍ ضعيفة الجودة. في النتيجة، إنّ المؤشّرات ليست مجرّد أرقام، بل إنّها أدوات سلطة تُعيد تشكيل المعرفة عالَميّاً. أمّا في العالَم العربي، فإنّ التحدّي أكبر، لأنّه علينا معرفة كيفيّة تحقيق التوازُن بين الانخراط في النظام العالَمي وضمان استقلاليّةٍ مَعرفيّة تُحافِظ على لغتِنا وقيمِنا. ويبقى السؤال معلَّقاً: هل يُمكن للعِلم أن يستعيدَ جوهَرَهُ الإنساني في زمنٍ تَحكمه الأرقام أم أنّ المعرفة ستظلّ أسيرةَ سباقٍ لا نهاية له؟ * كاتب وأكاديمي من لبنان * ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي