خلال خمسة أيام فقط من انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب 2025، بدا واضحًا أن الثقافة لم تعد نشاطًا نخبويًا أو حدثًا موسمياً، بل أصبحت عنصرًا اقتصاديًا يُقاس بالنمو والإيرادات وعدد العقود الموقعة. هذا التحوّل لم يأتِ مصادفة، بل نتيجة رؤية تُدرك أن الاستثمار في الثقافة استثمار في الإنسان، وفي اقتصاد المستقبل الذي يقوم على المعرفة والإبداع. الأرقام التي أعلنتها هيئة الأدب والنشر والترجمة تؤكد هذا الاتجاه بوضوح: نمو الزوار بأكثر من 40 % منذ الافتتاح، ارتفاع المبيعات اليومية بأكثر من 38 %، وتقدّم المبيعات الإجمالية بنسبة تجاوزت 43 % مقارنة بالعام الماضي، إلى جانب أكثر من 40 اتفاقية أُبرمت في منطقة الأعمال. هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن إقبال جماهيري، بل عن تحوّل الثقافة إلى نشاط تجاري منظم، له أثر في الناتج المحلي وفرص العمل. معرض الكتاب في نسخته الحالية يجمع أكثر من 2000 دار نشر ووكالة من 25 دولة، ويقدّم برنامجًا يتضمن 200 فعالية ثقافية و45 ورشة عمل و40 جلسة حوارية بمشاركة 115 متحدثًا. هذا التنوع في البرامج والجهات المشاركة يؤكد أن الثقافة السعودية بدأت تدخل مرحلة التنويع الاقتصادي الحقيقي، حيث تتكامل فيها قطاعات النشر والترجمة وحقوق الملكية الفكرية والإعلام الثقافي ضمن منظومة واحدة. في المشهد الجديد، يظهر المعرض بوصفه منصة اقتصادية ثقافية متكاملة. فكل صفقة بيع، وكل توقيع عقد، وكل اتفاقية توزيع تمثّل قيمة مضافة للاقتصاد الثقافي الوطني. كما يوفّر الحدث مساحة للتعارف المهني بين الناشرين والمبدعين والمستثمرين في المحتوى، وهو ما يفتح مجالات عمل جديدة في الكتابة، والإنتاج، والتسويق، وإدارة الحقوق. في السياق الأوسع، يمثّل معرض الرياض الدولي للكتاب واجهة للرؤية السعودية 2030 التي تضع الثقافة ضمن محركات التنمية المستدامة. فالثقافة هنا ليست ترفًا، بل قطاعًا منتجًا يخلق الدخل ويعزز القوة الناعمة للمملكة. ومتابعة تطور أرقام المعرض عامًا بعد عام تكشف أن الوعي الاقتصادي بالثقافة يتعمّق، وأن الوعي الثقافي بالاقتصاد ينضج في المقابل. مع كل دورة جديدة من المعرض، تتضح ملامح مشروع ثقافي طويل المدى، مشروع لا يكتفي بنشر الكتب، بل يسعى إلى بناء سوق معرفي متكامل يستثمر في الكلمة بوصفها أصلًا اقتصاديًا، وفي الإنسان باعتباره المورد الأكثر قيمة في المستقبل السعودي.