يشهد معرض الرياض الدولي للكتاب عامًا بعد عام توسعًا نوعيًا في تأثيره، حتى إنّه تجاوز وصفه مهرجانًا أدبيًا وثقافيًا، ليكون رافدًا اقتصاديًا متناميًا ضمن صناعة الثقافة السعودية، فالمعرض الذي تنظمه هيئة الأدب والنشر والترجمة، ويُعد من أكبر الفعاليات الثقافية في العالم العربي، أصبح اليوم أحد المؤشرات الملموسة على تحول الثقافة إلى قطاع إنتاجي متكامل يرفد الاقتصاد الوطني. الأرقام السابقة تكشف تجاوز عدد زوار دورة العام الماضي 1.5 مليون زائر، فيما سجّلت المبيعات أرقامًا قياسية قاربت نصف مليار ريال سعودي، بحسب بيانات الهيئة، وهذه الأرقام تعكس حجم القوة الشرائية للكتاب في السوق المحلي، وتؤكد أن الثقافة باتت سوقًا واعدة ضمن منظومة رؤية المملكة 2030 التي تنظر إلى الصناعات الإبداعية بوصفها أحد محركات النمو والتنويع الاقتصادي. المعرض هذا العام، الذي يُقام تحت شعار «الرياض تقرأ»، يجسد التحول الثقافي في المملكة، ويبرز التزامها الراسخ ببناء مجتمع معرفي عالمي التأثير، فقد تجاوزت أجنحته حاجز 2000 دار نشر ووكالة من أكثر من 25 دولة، إلى جانب تنظيم 200 فعالية مصاحبة، وأكثر من 40 جلسة حوارية، و45 ورشة عمل، بمشاركة 115 متحدثًا، وهذه الأرقام لا تمثل تكدسًا للفعاليات، بقدر ما تعكس تنوعًا اقتصاديًا وثقافيًا في نموذج الإدارة الثقافية الحديثة التي توفّر فرصًا للنشر، والتوزيع، والتسويق، وحقوق الملكية الفكرية، وخلق وظائف نوعية في مجالات الكتابة والترجمة والإنتاج الثقافي. ويتضح البعد الاقتصادي للمعرض في كونه منصة سنوية تجمع بين صنّاع الفكر والأدب والثقافة والنشر والترجمة من مختلف دول العالم، إلى جانب المؤسسات الثقافية الخاصة والحكومية، ما يسهم في بناء جسور شراكات طويلة الأمد بين دور النشر السعودية والعربية والعالمية، وهذه المنصة باتت مساحة للتفاوض، وتبادل الحقوق، وتوقيع العقود التجارية، وتوسيع شبكة التوزيع، بما يعزز حضور المحتوى العربي في الأسواق الإقليمية والعالمية. من الناحية الإستراتيجية، يعمل المعرض على تحقيق أهداف واضحة تتقاطع مع الرؤية الوطنية، أبرزها تعزيز التبادل الثقافي محليًا ودوليًا، وتحفيز الإبداع والمعرفة، والإسهام في تحقيق مستهدفات التنمية المستدامة من خلال جعل الثقافة محركًا اقتصاديًا واجتماعيًا في آن واحد، كما يقدّم تجارب ثقافية ملهمة تعزز المشاركة المجتمعية، وتفتح المجال أمام الشباب والناشرين الجدد لابتكار نماذج عمل جديدة في صناعة النشر. وعلى المستوى الإعلامي، يشكّل المعرض فرصة كبرى للوسائل الإعلامية لتسليط الضوء على المبادرات الثقافية السعودية الطموحة، إذ تسهم التغطيات في نقل تجربة ثقافية نوعية تعكس تنوع المشهد الثقافي في المملكة، وتقدّم نموذجًا متطورًا لاقتصاد المعرفة الذي يدمج بين الثقافة والابتكار وريادة الأعمال. معرض الرياض الدولي للكتاب اليوم يتجاوز دوره التقليدي كمنصة لبيع الكتب، ليصبح نموذجًا تطبيقيًا لاقتصاد الثقافة في المملكة، حيث تلتقي المعرفة بالاستثمار، ويُعاد تعريف الثقافة بوصفها قيمة اقتصادية تسهم في الناتج المحلي، وتفتح فرصًا جديدة للعمل والإنتاج والإبداع. وبينما تتوسع الدورة الحالية رقميًا وتنظيميًا ومضمونيًا، يبقى المعرض شاهدًا على التحول العميق في مفهوم التنمية الثقافية السعودية، من حدث سنوي إلى مشروع مستدام يجمع بين الفكرة والإيراد، وبين الكلمة والعائد، وبين الإبداع والاستثمار في الإنسان.