في كل خريف من أعوامنا الأخيرة، تنبض الرياض بشيءٍ يشبه «الوعي الجمعي» أكثر من كونه مجرد مهرجان للكتب. حين تفتح أبواب معرض الرياض الدولي للكتاب، فإنك لا تدخل قاعة بيعٍ وشراء، بل تدخل ذاكرة أمةٍ تعيد تعريف نفسها عبر الحرف والفكرة والسؤال. في هذه الأيام مع بهجة استقبال الشتاء تتحول العاصمة السعودية إلى ما يشبه «محورًا معرفيًا» يلتقي عنده الشرق والغرب، وتختلط فيه اللهجات العربية مع لغات العالم، وتتعانق فيه الكتب القادمة من أقصى الشرق مع تلك القادمة من ضفاف المتوسط. منذ أعوام، لم يعد المعرض حدثًا محليًا فحسب، بل صار أكبر منصة ثقافية في الشرق الأوسط، ومؤشرًا على التحول الذي تمر به السعودية نحو مجتمعٍ يحتفي بالمعرفة ويستثمر فيها. فالمعرض ليس مجرد سوق للناشرين، بل منظومة فكرية تعكس حجم الانفتاح الثقافي الذي تعيشه المملكة، ورغبتها في أن تكون مركزًا دائمًا للحوار الحضاري وتبادل الخبرات الأدبية. في أروقة المعرض ترى المشهد العربي كله مجسدًا: دور نشر مصرية ولبنانية تتجاور مع نظيراتها الخليجية والسورية والمغاربية، وجناح سعودي ينضح بكتب الفكر والتاريخ والأدب الحديث. هناك تتولد المشاريع المشتركة بين دور النشر، وتوقّع اتفاقيات الترجمة، وتُبنى شراكات توزّع المعرفة كما توزّع الأمطار على أرضٍ عطشى. فالمعرض لا يوسّع نشاط دور النشر فقط، بل يمنحها منصة اقتصادية وثقافية للتعاون المتبادل، حيث تتحول اللقاءات العابرة إلى مشاريع مستقبلية، والحوارات الجانبية إلى جسور تمتد بين العواصم العربية. ولعل الأثر الأعمق لمعرض الرياض لا يُقاس بعدد الزوّار أو المبيعات، بل بما يتركه من تأثير في الوعي الجمعي للشباب السعودي والعربي. هناك جيلٌ جديد يدخل المعرض كل عام بعينٍ مترددة ويخرج بعقلٍ مفتوح، يكتشف أن الثقافة ليست ترفاً، بل طريقة وجود. في فضاء المعرض تتجاور الفلسفة مع الرواية، والعلوم الإنسانية مع الشعر، والكتب العلمية مع الفن البصري، في مشهدٍ يعيد الاعتبار للكتاب الورقي في زمنٍ مهووسٍ بالشاشة. وما يميز معرض الرياض الدولي للكتاب أنه لا يكتفي بدور العارض، بل يلعب دور «الوسيط الثقافي». فهو يجمع المثقفين، والكتّاب، والمترجمين، ودور النشر، وصنّاع المحتوى في نقطة واحدة. هذا التفاعل المتعدد جعل منه محورًا سنويًا للتبادل الثقافي عربيًا وعالميًا؛ حيث تُطرح القضايا الكبرى للفكر العربي، وتُناقش التحولات الاجتماعية، ويُعاد التفكير في علاقة الثقافة بالتقنية والهوية والإنسان. إنّ ما تصنعه الرياض اليوم من خلال معرضها هو مشروع نهضة ثقافية ناعمة، لا ترفع شعارات، بل تبني وعيًا هادئًا ومستمرًا. فالثقافة هنا لم تعد ضيفًا موسميًا، بل صارت جزءًا من ملامح المدينة ومن صورتها للعالم. لقد تحولت الرياض من عاصمة سياسية واقتصادية إلى عاصمة ثقافية عربية جديدة، تقف على قدم المساواة مع القاهرة وبيروت في زمنٍ مختلف ومعايير جديدة. وربما أجمل ما في هذا المعرض أنه يعيد لنا إيماننا بالكتاب ككائنٍ حي، يتنفس كلما فُتح، ويتكلم كلما قرأه أحد. فالكتب التي تتكدس على الرفوف لا تموت في الرياض، بل تجد من يوقظها من سباتها، ويمنحها حياة جديدة في عقل قارئٍ شاب أو مترجمٍ حالم أو مؤلفٍ يبحث عن كلمته التالية. في النهاية، يمكن القول إن معرض الرياض للكتاب لم يعد فعلًا ثقافيًا عابرًا، بل حدثًا حضاريًا يعيد رسم الخريطة الفكرية للعالم العربي، ويمنح السعودية موقعها الطبيعي في قلب المشهد الثقافي الإقليمي والعالمي. إنه ليس مجرد موعد سنوي، بل مرآة تعكس وعي وطنٍ يؤمن أن النهضة الحقيقية تبدأ من صفحة كتاب.