في منتصف المشهد السياسي العالمي، جاءت زيارة سمو ولي العهد السعودي إلى الولاياتالمتحدة وكأنها عودة للذاكرة الكبرى بين دولتين صاغتا معًا كثيرًا من ملامح القرن الماضي. لم تكن زيارة عابرة، بل لحظة تُقرأ من زاوية التاريخ قبل السياسة، ومن زاوية الرمزية قبل البروتوكول. أول ما لفت الأنظار كان اختيار ولي العهد لملابس تحمل الألوان ذاتها التي ارتداها جده الملك عبدالعزيز - طيب الله - ثراه في لقائه الشهير مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عام 1945 على متن السفينة كوينسي. لم يكن اختيارًا عشوائيًا. كان رسالة صامتة، تُذكّر بأن العلاقة ليست طارئة، وأن جذورها ضاربة في الأعماق، وأن من جاء اليوم إلى واشنطن هو امتداد لذات المدرسة التي تأسست على الوضوح والثبات والحكمة. على الرغم من تغير الوجوه وتبدل الإدارات، ظل الخيط الذي يربط الرياضوواشنطن ثابتًا عبر الزمن. وهذا المعنى ظهر جليًا في حديث سمو ولي العهد، حين قال بوضوح إن المملكة تعاملت مع رؤساء جمهوريين وديمقراطيين على حد سواء، وإن السياسة السعودية تقوم على المصالح المستقرة لا على موجات التغير الحزبي. كانت جملة بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل خبرة دولة واجهت تقلبات العالم بحكمة، ولم تتعامل يومًا بمنطق ردّات الفعل. كان لافتًا كذلك حضوره اللغوي. تحدث ولي العهد بالإنجليزية بطلاقة واتزان، لا ليؤدي دورًا بروتوكوليًا، بل ليقدّم صورة سعودية جديدة، قيادة شابة واثقة، تقرأ العالم بلغته، وتفاوض بثقة العارف، وتشرح مشاريعها بروح منفتحة. لم يكن في حديثه تكلّف، ولا في إجاباته ارتباك. كان يقدّم رؤية، لا يردد نقاطًا سياسية جامدة. و جاءت تصريحاته في اللقاء مع الرئيس ترامب لتكشف مزيجًا نادرًا بين الحزم والمرونة. تحدث عن الاقتصاد وكأنه مدير مشروع عالمي، وتحدث عن الأمن وكأنه قائد ميداني، وتحدث عن المستقبل وكأنه مهندس رؤية يعرف أين يريد أن يصل. لم يكن الحديث من أجل الإعلام، بل من أجل توثيق مرحلة جديدة في العلاقة، مرحلة أكثر وضوحًا، وأكثر نضجًا، وأكثر قدرة على عبور تفاوت الإدارات في واشنطن. في هذه الزيارة اجتمع الرمز التاريخي مع الرسالة السياسية ومع حضور القيادي الشاب، لتقول شيئًا واحدًا: المملكة اليوم ليست مجرد دولة تبحث عن مكان بين القوى، بل دولة تصنع مكانها، وتستدعي تاريخها، وتتحرك بثقة نحو مستقبلها. ربما تغيّرت تفاصيل العالم منذ لقاء الملك عبدالعزيز وروزفلت، لكن جوهر العلاقة بقي ثابتًا، شراكة تقوم على المصالح المشتركة، وعلى فهم عميق بأن من يقود السفينة لا بد أن يقرأ البحر كله... لا موجة واحدة.