عندما تدوس آلة حرب الاحتلال الهمجية مدينة "المصايف" الفلسطينية الاجمل في عيون غالبية الفلسطينيين بعد حيفا وبيسان، يتحول المشهد العام الى خراب يصعق الناظرين من هول الدمار الذي ألم بنفوس البشر قبل الحجر والشارع والمنزل. في اليوم الثالث لاحتلالها، بدت رام الله والبيرة غريبة عن اهلها: دبابات ومجنزرات احتلت الشوارع وساحات المنازل، يصم هدير محركاتها ووقعها على الارض الاذان. سيارات هشمتها الدبابات، وقناصة وجنود يطلون عبر مجنزراتهم المحصنة ونوافذ البيوت التي احتلوها بعد ان ارهبوا اصحابها واحتجزوهم في غرف صغيرة قبل ان يحولوا منازلهم الى "فنادق" وابراج لقنص كل من يتحرك على الشوارع. شوارع كان العمال قد انتهوا على التو من تعبيدها جرفت من اساسها، واعمدة كهرباء محطمة وممدة كالشهداء على الطرقات، وانابيب تفجرت منها المياه التي قطعت عن احياء سكنية واسعة في المنطقة. فلسطينيون يخرجون من بيوتهم يطلبون من الصحافيين دخول منازلهم بعد ان عاث فيها الجنود فسادا ودمارا. وامهات تحدّيْن ارهاب الدبابة وخرجن يبحثن عن حليب وخبز لاطفالهن. حتى مصاحف القرآن لم تسلم من همجية الاحتلال، وكذا المدارس والمشافي التي صالت الدبابات في مداخلها وجالت دون حسيب او رقيب. في المدينة، انتهك الاحتلال، كما العهد به، كل المحرمات والحرمات حتى في ظل الحروب. الجرحى الفلسطينيون الذين تم اصطيادهم في عتمة الليل من القناصة، وصلوا الى مشفى رام الله بعد ان نزفوا لساعات من دون ان يتمكن احد من الوصول اليهم واخلائهم ليعلن عن وفاتهم بعد لحظات. وامتلات الاسرة في جناح العناية المكثفة بستة جرحى على الاقل كانوا يترنحون بين الحياة والموت، واخرون غابوا او غيبوا انفسهم عن واقع عجزت عقولهم عن استيعابه. وقف احد الاطباء الجراحين وقد انهكه التعب بعد اربعة ليال من العمل المتواصل مرت امام عينيه خلالها مشاهد مروعة لاجساد غضة مزقتها رصاصات من عيار 500 و 800 في احد اروقة المشفى الذي تحول محيطه الى خراب. وقال انه حاول الذهاب الى المنزل للاستحمام في اليوم الثاني لاحتلال المدينة، لكنه ما ان وصل الى منزله، حتى تم استدعاءه لمشفى الرعاية الطبية حيث نقل عدد من الجرحى من بينهم الصحافي الايطالي الذي قضى في اليوم ذاته. واضاف: "شاهدت جريحين احدهما خرجت امعاءه من جسده والاخر اخترقت رصاصة رأسه، فاسرعت بنقلهما الى سيارة الاسعاف التي اقلتني وتوجهنا الى مشفى رام الله، ولم اعلم انه بات ايضا محاصرا. كان المشهد مخيفا. رأيت الزملاء وهم يحاولون زحزحة الدبابة بأجسادهم لفتح الطرق امام سيارات الاسعاف. خرجت من السيارة ونقلنا الجريحين من بين الدبابات واجرينا لهما انا والزملاء عمليتين جراحيتين وهما ما يزالان على قيد الحياة في ما اشبه بالمعجزة". ويتغير المشهد في مخيم الامعري للاجئين الفلسطينيين الذي بدا انه، كغيره من مخيمات اللجوء، سيبقى "الكابوس" الذي يؤرق الاحتلال ابد الدهر. فرغم المعاناة والقهر واعتقال اكثر من 200 رجل وفتى من بين ازقته الضيقة بعد تدمير جدران البيوت البائسة من اجل الانتقال من بيت الى بيت خوفا من النزول الى الشوارع، خرج مئات الاطفال للعب في الازقة متحدين ببراءتهم الدبابات وناقلات الجنود والقناصة الذين احاطوا بالمخيم من كل جانب. وكانت المحادثات الجانبية للصغار: طفل يسأل رفيقه: "هل اقتحموا بيتكم. نحن لم ننم ولا دقيقة واحدة. دخلوا البيت واعتقلوا والدي وفتحوا ثغرة كبيرة في جدار المطبخ ودخلوا منه الى منزل الجيران .انا لم اخف لكن خفت على شقيقتي. انت محظوظ لانه لا يوجد لك شقيقات فقط اشقاء". وفجأة تستأنف الاشتباكات وتحاول الامهات ادخال الاولاد الى المنازل، لكن المنازل المتواضعة باتت مليئة بالثغرات والثقوب فالى اين الملاذ؟