اتشحت مدينة بيت لحم المتعبة والمدمرة بالسواد وهي تودع شهيدها الثاني والعشرين خلال ستة أيام، وغابت البسمة عن وجوه مقاتليها الذين تجمعوا وسط ساحة المهد غداة معركة ليلية جديدة وصفت بأنها الأعنف منذ احتلال الجيش الاسرائيلي في 19 الجاري. وعلى وقع قرع أجراس الكنائس وآذان المساجد، بدت شوارع بيت لحم وتوأمها بيت جالا مدينة أشباح خلت إلا من الدبابات ترتع في أزقتها مخلفة الدمار والمباني المحترقة التي اخترقها رصاص الرشاشات الثقيلة. وتجمع المواطنون في ساحة المهد التي تحولت الى "بيت عزاء" يقدمون فيه التعازي الى أهالي الضحايا قرب مهد السيد المسيح. فهنا يعزي اعضاء من حركة "فتح" اعضاء "حركة المقاومة الاسلامية" حماس على شهدائها ومنهم فراس صلحات مسؤول "كتائب عز الدين القسام" الذي استشهد مساء اول من امس. وهناك يعزي انصار "حماس" حركة "فتح" على شهدائها، ومنهم مسؤول "كتائب الاقصى" عاطف عبيات. وفي مشفى "العائلة المقدسة" كانت منال السايح ابنة الخامسة والعشرين تبكي جنينها الذي فقدته بعدما تعذر وصولها الى المستشفى في الوقت المناسب لمنع الاجهاض، بينما احتضنت رشا أحمد وليدتها الجديدة تشكر الله على أنها تمكنت من اختراق الرصاص ووصلت الى المستشفى الذي يبعد مئة متر عن مخيم العزة حيث تسكن. وقالت وهي تنظر الى وليدتها: "احمد الله انها بخير. كنت ارتجف خوفا ان افقدها كما فقدت فاطمة جنينها على الحاجز القريب من هنا". وقالت الممرضة منيرة وهي تنظر الى مولود "خداج" أخرجت من رحم أمها وهي في أسبوعها الثامن والعشرين، ولا يتجاوز وزنها ال900غرام: "انا واثقة انها ستنجح في الحياة ... لقد تساقط زجاج الحاضنة فوقها ونجت ومن نجا من قصف همجي كالذي تعرض له المشفى، سيعيش ان شاء الله". واضافت الممرضة وهي تشير الى الجدران والابواب والنوافذ التي اخترقها الرصاص: "هذا شيء لا يطاق ليس لدى جنود الاحتلال لا رحمة ولا شفقة، لم يسلم لا مستشفى ولا منزل، لن يخرجوا من المدينة الا بعد ان يدمروها بالكامل". مظاهر المدينة التي احتفلت متباهية بالألفية الثانية لميلاد المسيح قبل عام، تحولت الى ساحة دمار معركة غير متكافئة الاطراف. واجهات المحلات التجارية المغلقة مدمرة يكسوها السواد بفعل القذائف التي أحرقتها بما فيها ... أعمدة الكهرباء داست عليها الدبابات المجنزرة ... فندق "برادايس" بات آيلاً للسقوط ... عمارة "القرع" المقابلة لمستشفى "العائلة المقدسة" أحرقت بالكامل بعدما رفض الجنود السماح لطواقم الإطفائية بالوصول إلية لإطفاء النيران. وأوضحت الممرضة منيرة: "لم يبق شخص الا واتصلنا به ليرغمهم على السماح لسيارة الاطفاء بالوصول... المبنى قريب جداً من مخزن الأوكسجين وكدنا نموت رعباً ونحن نراقب ألسنة النيران وهي تقترب. لم يقبلوا الا بعد ان وصلت المسألة الى المستويات العليا في اسرائيل... الله ستر والا لكانت بيت لحم كلها انتهت". ولم تسلم جامعة بيت لحم بدورها من القصف، فكان لها نصيبها من الدمار. كانت لبيت لحم، وهي واحدة من المدن الست التي اعادت القوات الاسرائيلية احتلالها، النصيب الأكبر من الدمار والارهاب والشهداء، ولا يعرف أهلوها لماذا لا تزال هذه القوات تصر على إسقاط المزيد من الشهداء من مواطنيها حتى مع بدء الحديث عن "انسحابات تدريجية مشروطة". وقال أحد المقاتلين: "عصت بيت لحم على جبروتهم فزادهم ذلك حقداً عليها". وأوضح ان قادة الجيش الاسرائيلي أعلنوا انهم يحبذون ألا تبدأ عمليات الانسحاب من بيت لحم "لانهم لم يلقونوا أهاليها الدرس، لكنهم الان يقولون ان اول الانسحابات ستكون من بيت لحم وبيت جالا لكن بشروط". وعلى مدخل المدينة الشمالي حيث ربضت الدبابات وحبس المواطنون في منازلهم، وصلت حافلة اسرائيلية تقل مستوطنين اوصلتهم قوة كبيرة تحت حماية النار الى موقع "قبة راحيل"، وهي مسجد حولته سلطات الاحتلال الى كنيس. وبدأ المستوطنون بإنزال أمتعتهم وطعامهم على عجل قبل دخول السبت. وقال أحد المواطنين معلقا على المشهد: "قتلوا 22 فلسطينياً ودمروا وأحرقوا وجرحوا وحرموا الناس الآمان، ليؤمنوا لهؤلاء الوصول الى قلب مدينتنا ... فهؤلاء يستحقون الحياة، أما نحن فلسنا بشراً وكل ما نستحقه هو الموت والسجن في بيوتنا لينعم هؤلاء بأرضنا".