غيّب الموت الباحث والروائي والشاعر أحمد أبو دهمان، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى أمس الأحد. ويعد أبو دهمان واحدًا من أبرز الأدباء السعوديين المعاصرين الذين نجحوا في عبور الحدود اللغوية والثقافية من خلال تجربة أدبية فريدة تتداخل فيها السيرة الذاتية، والنص السردي، والذاكرة الجمعية لوطن وجيل وثقافة. ولد أبو دهمان عام 1949 في قرية آل خلف بمحافظة سراة عبيدة في منطقة عسيرجنوب المملكة العربية السعودية، وينحدر من قبيلة قحطان الشهيرة، وهي بيئة جبلية تمتاز بتاريخها وثقافتها الغنية وتقاليدها القبلية العميقة. نشأ أبو دهمان في أسرة ريفية بسيطة، حيث عاش طفولته بين أجواء الطبيعة والجبال والطقوس الشعبية، وهي عناصر ستصبح لاحقًا مادة خام لأدبه وسرده القصصي. التحق بالدراسة الابتدائية في قريته ثم أكمل دراسته الثانوية في مدينة أبها، قبل أن يتوجه إلى الرياض لدراسة اللغة العربية في جامعة الملك سعود، حيث تخرج بتقدير ممتاز، وعمل بعدها معيدًا في قسم اللغة العربية. في عام 1979 حصل على منحة لمواصلة دراسته في جامعة السوربون في باريس، حيث عاش هناك منذ 1982، وزوجته فرنسية، ليجد نفسه في تقاطع بين ثقافة محلية عربية عميقة وبين حضارة غربية حديثة. أصبح أبو دهمان خلال مسيرته شخصية بارزة في الصحافة والأدب، يشغل موقع مدير مكتب جريدة الرياض في باريس ومراسلًا صحفيًا، كما كان له عمود أسبوعي في الجريدة بعنوان "كلام الليل"، حيث كتب عن الحياة، الثقافة، الهوية، والذاكرة بأسلوب يمزج بين العمق والتحليل والسرد الشعري. كما شغل منصب الرئيس التنفيذي لمؤسسة الحزام للاستشارات الإعلامية في الرياض. الكتابة والصحافة كتب أبو دهمان أطروحات أدبية وثقافية عديدة، لكن معرفته في الوسط الثقافي السعودي والعربي ارتبطت بشكل وثيق بعمله الصحفي وعموده الأسبوعي في جريدة الرياض. في مقالاته عالج موضوعات تتراوح بين النقد الاجتماعي والتحولات الثقافية، وكان دائمًا يُظهر حسه النقدي العميق وقدرته على الربط بين التفاصيل الصغيرة في حياة الفرد والمجتمع وبين القضايا الكبرى في الثقافة والهوية. كما كان صوته واضحًا في الدعوة إلى الاعتراف بحقوق المؤلف، والدفاع عن المبدعين السعوديين في الساحة الثقافية المحلية والعالمية، مطالبًا ببيئة تحترم الإبداع وتضمن للمبدع الاعتبار المادي والمعنوي. في إحدى أمسياته التي تناولتها جريدة الرياض، تم استدعاؤه لمناقشة تجاربه بين ثقافتين: المحلية التي نشأ فيها في عالم القرية الشعبية في عسير، والعالمية التي عاشها في باريس، حيث تحدث عن محنة الكاتب العربي في الاغتراب، وسؤال الهوية الذي يصبح أكثر تعقيدًا في مواجهة الحداثة الغربية. وطرح من خلال ذلك سؤالًا قابلًا للتأويل حول تأثير هذه التجربة على لغته العربية وكيفية تعاطيه مع نصوصه. في مقال بعنوان "أحمد أبو دهمان.. كن كما أنت!"، يجري الكاتب الصحفي قراءة نقدية لتجربة أبو دهمان الثقافية، مشيرًا إلى صراعه مع اللغة، وتفاعله مع الحضور الغربي - الفرنسي، والسؤال: هل قدم نفسه للغرب بلغة الغير على حساب هويته العربية؟ وهو سؤال يعكس جدلًا واسعًا حول الكتابة في لغة غير الأم، والهوية الثقافية. رواية الحزام أشهر أعمال أحمد أبو دهمان الأدبية هي رواية الحزام، والتي تُعد من أبرز الروايات السعودية التي حققت انتشارًا دوليًا واستقطبت اهتمام القراء والنقاد في أوروبا وأمريكا والعالم العربي. الحزام نشرت أولًا باللغة الفرنسية عام 2000 عن دار النشر الرفيعة غاليمار في باريس، وهي الرواية التي جعلت من أبو دهمان أول كاتب من شبه الجزيرة العربية يكتب ويُنشر عملًا أدبيًا أصليًا بهذه اللغة. تمت ترجمة الرواية إلى عدد من اللغات، من بينها العربية التي ترجمها المؤلف بنفسه، كما تُرجمت إلى الإنجليزية، والألمانية، والهولندية، وغيرها من اللغات العالمية. تقع الحزام في إطار ما يمكن وصفه ب"السيرة الجماعية ذات الطابع الروائي"، إذ يقدم فيها أبو دهمان سردًا شاعريًا لحياة القرية التي نشأ فيها، ويربط بين تجربته الشخصية وتجربة مجتمع بأكمله في مواجهة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية التي فرضتها الحداثة والعولمة. الرواية لا تتخذ بالضرورة حبكة معقدة بقدر ما تعتمد على السرد الحميمي والعمق الشعوري الذي يعكس ذاكرة الكاتب وذاكرة القرية، كما أنها تتناول موضوعات مثل الهوية، والتقاليد، والانتقال من القيم القديمة إلى الواقع المعاصر. الأسلوب السردي تدور أحداث الرواية حول نشأة الراوي في قرية آل خلف في عسير، حيث الصراعات بين القديم والحديث، بين اللغة الأصلية والمكتسبة، بين الطبيعة والمدينة. من خلال تفاصيل الحياة اليومية، من الأغاني الشعبية والطقوس القبلية إلى أجواء المدرسة والتعلم، يسبر أبو دهمان في الحزام ذاكرة المكان والبشر، كاشفًا عن تلك اللحظات العابرة التي تشكل وجدان الإنسان والهويات المشتركة. الرواية تتداخل فيها الحقيقة مع الرمزية، والأسطورة مع الواقع، إذ يصور الراوي البيئة القرية بطريقة تشبه السيمفونية: الطبيعة والإنسان والحكاية تنبض كأنها كيان واحد. وقد اعتبر البعض الرواية أكثر من مجرد سرد للسيرة؛ فهي قصيدة سردية طويلة تمتد عبر رموزها وشخوصها، وتهدف إلى نقل إحساس الإنسان العربي تجاه جذوره وتاريخه ومكانه في العالم. من بين الشخصيات المركزية في الرواية شخصية "حزام" التي يُستعار منها عنوان الرواية، وهو رمز لقوة القرية وصلابتها وتشبثها بالجذور. الرواية تستحضر أيضًا علاقات القرية بالعالم الخارجي، والصراع بين الانتماء إلى الأصالة والرغبة في فهم العالم الحديث. ماذا قال النقاد عن الرواية؟ لقب الحزام بأحد الأعمال الأدبية التي "تختزل الجزيرة العربية" في رؤيتها وتجربتها الإنسانية والثقافية، وقد استقطبت الرواية اهتمام الوسط الأدبي الفرنسي، وبخاصة في أواسط النخبة النقدية، حتى إنها صدرت في طبعات متكررة في فرنسا وتناولتها الدراسات النقدية في أكثر من جامعة وثقافة. من وجهة نظر بعض المراجعات على منصات القراء مثل Goodreads، يرى القراء أن الحزام تقدم نصًا شاعريًا وإنسانيًا يتجاوز الفرضيات النمطية عن الشرق الأوسط، ويقدم رؤية شخصية وعميقة لعالم القرية وتجربة الإنسان في نشأته وتحوله. أحد القراء يصف العمل بأنه "رواية كأنها أغنية"، تمزج بين الطبيعة والشخصيات والحكايات الشعبية بطريقة تجعل القارئ يعيش تفاصيل القرية وكأنها واقع حي يتنفس. وروائي آخر يرى الرواية كقصيدة أكثر من كونها نصًا روائيًا جامدًا، معبّرًا عن تأثيرها الشعوري العميق. في النقاشات الأدبية، تناول بعضهم الرواية كعمل يعالج التداخل بين التاريخ والذاكرة والثقافة، معتبرين أن اختيار الأسماء والرموز في الرواية يحمل دلالات ثقافية عميقة، ويعكس عملية بناء الهوية في زمن التحولات الكبرى. إحدى الدراسات النقدية المعاصرة تشير إلى أن الرواية تستخدم الترميز والاسم كأداة أدبية لتوظيف الهوية الثقافية في النص، مما يجعلها نصًا مفتوحًا على قراءات متعددة. اللغة والهوية من أبرز القضايا التي أثارت جدلًا حول أبو دهمان وروايته هو اختياره الكتابة بالفرنسية أولًا، قبل ترجمة نصه إلى العربية. يرى البعض في هذا الخيار خطوة جريئة نحو الوصول إلى جمهور عالمي ولغة ثقافية عريقة، بينما يراه آخرون تراجعًا عن اللغة الأم وتقديم الذات الثقافية العربية للآخر. وقد تناول هذا الجدل بشكل نقدي في مقالات نشرت في جريدة الرياض، حيث يتساءل الكاتب عن قدرة أبو دهمان على أداء الأغاني الجنوبية وأصالته الحضرية بالعربية مقابل الفرنسية، وهل كان انتصارًا للغة العالمية على حساب اللغة الأم؟ بينما يوضح أبو دهمان نفسه أن اختياره للفرنسية لم يكن تقليلًا من العربية، بل وسيلة لإيصال الحقيقة الثقافية السعودية للعالم الغربي، وأن الرواية كتبت في الأصل لزوجته وابنته قبل أن تُنشر، وهو بذلك يرى في لغته المكتسبة أداة للتواصل بين الثقافات وليس تنكرًا للهوية. إرث أدبي وإنساني يمثل أحمد أبو دهمان من خلال الحزام وكتاباته الأخرى جسرًا بين ثقافتين؛ بين جذور عربية عميقة وتجربة عيش طويلة في حضارة غربية حديثة. لقد نجح في أن يقدم رواية عربية أصيلة بلغات متعددة، وأن يجعل عالم القرية وجماله وتحدياته موضوعًا عالميًا يستحق التفكير والقراءة. وفي الوقت الذي يستمر فيه الأدب السعودي في التوسع والنمو، يظل أبو دهمان نموذجًا فريدًا للكاتب السعودي الذي عبر حدود المكان واللغة ليصل إلى حوار حضاري أوسع، جامعًا بين المحلية والعالمي. المقبل وكيل وزارة النقل خلال حديثه مع الزميل أحمد أبو دهمان أحمد أبو دهمان رواية الحزام