قرية أبي دهمان في «الحزام» لا يبنيها أبو دهمان فقط، بل يبنيها متلقيها، فالمتلقي، كما تقرر نظرية التلقي، يحضر في التفاعل الكامن في الرسالة الفنية، لأن هذا التفاعل، كما يطرح يوري لوتمان، يتضمن عمليات من الفعل ورد الفعل تدخل في صلب العمل الفني، ولا بد فيها من حضور المتلقي في التواصل المبدئي الذي يقيمه الكاتب «المرسل» مع نفسه. هذا التفاعل، من حيث هو مدار لإنتاج الكتابة وتشكيل الخطاب، تخيلي أكثر من كونه واقعيا، وانتقائي لا كلي، وتحويلي لا تسجيلي أو نقلي. وهو يحيل إلى «الذخيرة» بمفهوم فولفجانج إيزر، بوصفها قاسماً مرجعياً مشتركاً بين المرسل والمتلقي، يرتب مادة السرد وطريقته كما يرتب الاستيعاب له وتأويله والحكم عليه. وبذلك لا يغدو النص شيئاً موجوداً بذاته، بل بقارئه ومتلقيه عبر ما يتضمنه النص من فعل وتفاعل يصنعان ما يسميه هانز روبرت ياوس «أفق الانتظار» عند القارئ. رواية «الحزام» كتبها أحمد أبو دهمان، أولا، باللغة الفرنسية، وصدرت عن «قاليمار» إحدى أشهر دور النشر الفرنسية، ونفدت طبعاتها سريعاً حتى وصلت «ربما جاوزت» الطبعة الثامنة في وقت وجيز، ثم ترجمها أبو دهمان نفسه إلى العربية، وصدرت طبعتها العربية عن دار الساقي بلندن دون تاريخ، ولم تنفد هذه الطبعة، ولم تتكرر طبعاتها بالعربية، على حد علمي، وردَّدت التعليقات العربية على هذه الرواية كثيرا، نجاحها ورواجها بالفرنسية، وتلقُّف القراء لها وعَرْضها في واجهة معارض ودور بيع الكتب. ولست، هنا أُلُمِح إلى كسادها، عربيا، فهي أقوى من أن يُطْعن فيها بمثل هذا الحكم، خصوصا وأن سوق الرواية والأدب، عربيّا، لا تنصف ، غالبا الأعمال المتميزة، ولا يصح، بالتالي أن تتخذ مؤشر جودة أو نجاح مطلق. ما أنا بصدده هنا، هو محاولة اكتشاف معينات التفاعل التي انبنت الرواية عليها في ضوء توجهها إلى المتلقي الفرنسي مستثمرة الذخيرة التي تجمعه بأبي دهمان وواعية بأفق انتظاره ذي الخصوصية الفارقة التي تتجاوب مع مقاصد الرواية بوصفها خطاباً إنسانياً عابراً للإثنيات والثقافات. النسخة العربية التي أعود إليها، هنا، عاجزاً، مع أسفي عن قراءة الفرنسية هي فرع من أصل، وهو فرع يكتسب مشروعيته النصية بالترجمة ليغدو عملية إحالة عبر اللغة والثقافة أي عبر الرؤية والموقف، بما يرتبها، كمفصل إبداعي، في جهدها الصياغي والبنائي، وفي شروط تلقيها وذخيرة سياقها العربي على مستوى الحضور والغياب، والزيادة والنقصان، والمطابقة والانجراف ... وعلى مستوى الفراغ . ومع أن مفصليتها هذه تحجب، جزئياً، الأصل، وتخونه، فإنها صالحة لاستكناه المقصد المذكور أعلاه، خصوصاً وأن المتلقي الفرنسي يبقى، إلى حد ما، مدار تفاعل المترجم مثلما هو مدار تفاعل كتابة الأصل، وإن ظلت الحاجة ماسة إلى قراءة الرواية بطريقة مقارنة مع ترجمتها، يبدو أن ناقدنا السربوني الدكتور معجب الزهراني مدعو إليها ومؤهل لها. تُسْتَهل عبارة، في صفحة مستقلة، رواية «الحزام» بالصيغة التالية: «لبلادي. لكل القرى في العالم» ياء المتكلم التي تعلن الذات، هنا، تنضفر في بعد إنساني يطوي الآخر في الذات، وتجرده من فوارقه، لتلتقي بلاد الكاتب وكل القرى، ويتصل المتكلم مع المخاطب، والحاضر بالغائب .. الذات هي العالم وقريتها كل القرى. هكذا تعلن الرواية أن متلقيها جزء من خطابها ومن كينونتها، حيث لا تفرق القرية عن كل القرى، ولا «أنا» عنك، لتؤول الذوات إلى «نحن». وهي «نحن» مضمرة، تبقى في خلفية السرد وفي مضمونه العميق على نحو من شأنه أن يتيح حكاية الذات، لأنها غدت متحررة من ذاتها بقدر يريها هذه «الذات» من خارجها فهي آخر، ويريها «الآخر» من داخلها فهو ذات. هذه العبارة، حين تقيم التواصل مع الآخر مقام القطيعة، تشكل فعلاً تصورياً مغايراً للظاهر، يقلب حقائق وجودية ثقافية ومعرفية تغرّب الآخر وتحجزه في مفهوم المغاير لوناً ولغة وثقافة وجنساً ووجوداً .. وهي، لهذا القلب، تصعد فوق الواقع لتشكل معنى فنيّا، يقتضي رد فعله لدى متلقيه مستوى فنياً وخيالياً من التواصل الذي يستوعب رسالة السرد في أفق غير واقعي أو عادي، انه أفق الدهشة والغرابة الذي يرتد، بدوره، ليشكل فعل إملاء، وتحريض وتغذية وشرط وتكييف للسرد. تستحضر الرواية متلقيها الفرنسي وسياقه الحضاري والمديني لتصنع فعل الإدهاش في القرية وبها، فتغدو حركة التلقي مراوحة مستمرة بين القرية وباريس، تماماً كما هي حركة السرد وعلى نحو يكرس في القرية وشخوصها وأحداثها وعاداتها وجغرافيتها المفارقة التي تورث متلقيها، فقط، المتعة واللذة، بل ترتد بها على كاتبها وساردها الذي يبدو غني الرواية بالتفاصيل الدقيقة والاستقصاء والشاعرية دالا من دوال اندماجه فيما يسرد واختلاجه بمتعته. قرأت مرة قول أبي دهمان: انه كان يضحك، ويرتفع صوته، أحياناً، بالضحك، وهو يكتب «الحزام». وانه كان يتوقف عن الكتابة ليقرأ لزوجته وابنته بعض التفاصيل، فيشتركون في الضحك. أبو دهمان في الرواية، عاش هذه التفاصيل وتشربها إلى عظم، ضحكه، وهو منفرد ومشترك مع غيره، استحالة من الإرسال إلى التلقي، ومن الكتابة إلى القراءة. وإذا كانت المفارقة التي تصنع الضحك هي فعل السرد، فإنها بكيفية أخرى، مفعول التلقي، ولن يتيسر لنا تصور مثل هذا الفعل ورده بالشروط التي تصنعها الحزام لو تخيلنا أبا دهمان يكتب روايته للقارئ العربي، أو وهو بين جماعته في بلاد قحطان. «في هذه المدينة التي اختلست كثيرا من آثار العالم،، وحافظت عليها، كنت أشعر أحياناً أني نصب تاريخي، آخر مرة عشت فيها هذا الشعور، كان عندما زرت طبيباً مختصاً بعلاج القدمين «...» في القرية لا نعطي اعتباراً للقدمين، بعضنا يولد ويموت دون أن يرى باطن قدميه، وعندما أخذهما الطبيب بيديه، رنوت له وخجلت كيف أرفع قدمي في وجهه، أمضى ساعات عديدة في إقتلاع ما نسميه «اللحم الميت». تسلل إلى تلك الطبقات عبر بعض الشقوق التي لم تستطع باريس إخفاءها. وفي تلافيف هذا «اللحم» اكتشفنا معاً خبايا من طفولتي الحافية من أشواك متحجرة وغيرها». باريس، هكذا، تصنع من أبي دهمان كينونة أخرى، وهي، إذن، نسخة ذاكرة سردية ذات حواس خاصة تكيّف حكايته لقريته، وتخلق، بشرطها الزماني، دالها ودلالتها.