هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي وظيفتك أم سيغيّرها؟ هذا السؤال لم يعد حبيس النقاشات الأكاديمية أو التحليلات التقنية، بل أصبح حاضرًا في غرف الاجتماعات، وقاعات الجامعات، وحتى على موائد العشاء اليومية. فالتقنية تتسارع بوتيرة غير مسبوقة، فيما تحاول التشريعات ملاحقتها، وتنتشر المخاوف أسرع من الحقائق. في مقالي السابق بعنوان «هل الأتمتة قاتلة للوظائف؟» تناولت جانبًا من هذه المخاوف، لكن قراءة التاريخ واستشراف المستقبل يكشفان عن صورة أكثر اتزانًا: حيث لا يقف الإنسان والآلة على طرفي نقيض، بل في موقع الشراكة والتكامل. اليوم، تتغير المعادلة. صحيح أن الأتمتة ألغت بعض الوظائف وما زالت تفعل، إلا أن الذكاء الاصطناعي يفتح أمامنا مرحلة جديدة: مرحلة التعاون بين بصيرة الإنسان وذكاء الآلة، لا مجرد الاستبدال. ما الذي يميز الذكاء الاصطناعي عن الأتمتة التقليدية؟ في حين أن نتائج الأتمتة التقليدية كانت متوقعة ومبنية على قواعد ثابتة، يقدم الذكاء الاصطناعي عنصر التنوع والقدرة على التكيّف. فقد صُمم ليُعزز القدرات البشرية بطرق ديناميكية، بداية من صياغة المذكرات القانونية وتلخيص السجلات الطبية، وإلى تحسين استهلاك الطاقة في المباني، وحتى تطوير خدمة العملاء. والنتيجة: وتيرة أعمال أسرع وأكثر وعيًا بالسياق والأحداث مقارنة بأي وقت مضى. الحقائق بالأرقام يشير استطلاع حديث للمنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن 75% من الشركات عالميًا ستتبنى تقنيات الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الخمس المقبلة، فيما يستخدمها نحو نصف هذه الشركات بالفعل. ورغم ذلك، تتوقع معظمها زيادة في عدد الوظائف المتاحة، خصوصًا في الأدوار التي تتطلب التفكير النقدي، والإبداع، والمهارات الرقمية. الرسالة واضحة: الذكاء الاصطناعي لا يلغي دور الإنسان، بل يعيد تشكيل المهارات المطلوبة للنجاح في سوق العمل الحديث. الحدود التي لا يمكن للآلة تجاوزها رغم إمكاناته الهائلة، يظل الذكاء الاصطناعي محدودًا. فهو يفتقر إلى الفهم الدقيق، والأخلاقيات، والذكاء العاطفي. لا يستطيع بناء الثقة، أو توجيه الزملاء، أو ابتكار نماذج أعمال جديدة. هذه قدرات إنسانية خالصة، تزداد قيمتها في عصر الآلات الذكية. حتى في البيئات الرقمية المتقدمة، يظل دور الذكاء الاصطناعي دور المُقترِح لا صاحب القرار. ففي جونسون كنترولز العربية، يساهم الذكاء الاصطناعي في إدارة بيئات ذكية وشبه مستقلة، لكنه لا يحل محل الحكم البشري في المواقف الحرجة أو الأخلاقية. رؤية وطنية طموحة ودور المملكة في المشهد العالمي المملكة العربية السعودية تتحرّك بخطوات مدروسة لتكون في صدارة التحوّل المدفوع بالذكاء الاصطناعي. ومع إطلاق الشركة الوطنية للذكاء الاصطناعي «هيوماين»، أكدت السعودية طموحها لأن تصبح مركزًا عالميًا للتقنية، تماشيًا مع رؤية 2030 التي تركز على التنويع الاقتصادي والريادة التقنية وبناء اقتصاد معرفي. إذ تقود الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي (NSDAI) هذا المسار، وتهدف إلى وضع المملكة ضمن أفضل 15 دولة عالميًا في الذكاء الاصطناعي بحلول 2030. وتشمل أهدافها طموحات محددة تتمثل في: تدريب أكثر من 20,000 متخصص في البيانات والذكاء الاصطناعي، جذب استثمارات تتجاوز 20 مليار دولار، وتمكين أكثر من 300 شركة ناشئة في المجال. وهي تطلعات تؤكد إصرار المملكة على أن تكون لاعبًا رئيسيًا في هذا التحوّل. وقد استضافت المملكة مؤخرًا قمة الذكاء الاصطناعي العالمية (Global AI Summit) بمشاركة كبرى الشركات العالمية وقادة الفكر، فيما يؤكد تصاعد الثقة العالمية. مخاوف الشباب في محاضرة جامعية قدمتها مؤخرًا حول الذكاء الاصطناعي وسوق العمل هنا بالسعودية، أظهرت استبانة حية أن حوالي 43% من الطلاب مقتنعين بأن الذكاء الاصطناعي سيؤثر سلبًا على فرصهم المهنية. وعلى مستوى عالمي، وجدت دراسة لمؤسسة BMG Research شملت 50,000 طالبًا أن نحو 50% منهم يعتقدون أن الأتمتة والذكاء الاصطناعي سيضرّان بآفاقهم الوظيفية. هذه المؤشرات توضح حجم القلق وتفرض علينا استجابة عملية. مواجهة هذه المخاوف تتطلب نهجًا استباقيًا في التعليم والتدريب: دمج مهارات الذكاء الاصطناعي ضمن المناهج المدرسية والجامعية، وتعزيز شراكات فعّالة بين الأوساط الأكاديمية والصناعة، وإتاحة تجارب تعلم عملي ومشروعات تطبيقية للطلاب. الرسالة للطلاب والمهنيين واضحة: تعلم كيف تتعاون مع الذكاء الاصطناعي ولا تخشاه. ماذا نفعل في جونسون كنترولز العربية؟ أطلقنا برنامجًا داخليًا شاملًا لتعلّم الذكاء الاصطناعي يهدف إلى تمكين موظفينا من فهم التطبيق العملي لهذه التقنيات. ضمن هذا البرنامج: إتاحة Microsoft Copilot لكافة الموظفين، وتنفيذ دورات تدريبية متعددة المراحل حضرها المئات من الزملاء في الأقسام الهندسية، والبيع، والتشغيل، والتسويق، والقانون، وغيرها. الهدف بسيط وعملي: تمكين الفرق للعمل بذكاء أكبر وكفاءة أعلى، واستخدام الذكاء الاصطناعي كأداة لتعزيز القدرات البشرية لا استبدالها. كما نشجّع الموظفين والمهتمين على مصادر تعليمية عامة ومجانية لبناء الأساس المعرفي مثل Coursera وedX وبرنامج AI for Everyone من Google ومركز التعلم لدى OpenAI. عصر الإنسان والآلة سيعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل العديد من الأدوار الوظيفية، لكنه يلغي الحاجة إلى العنصر البشري. على العكس، سينجح من يثابر على تطوير مهاراته التكميلية للذكاء الاصطناعي، والتفكير النقدي، والابتكار، والحسّ الأخلاقي. نحن لا نواجه صراعًا بين الإنسان والآلة، بل ندخل عصرًا جديدًا من التعاون بينهم. مستقبل العمل سيكون لمن يعرف كيف يفكر ويقرر ويبتكر بالذكاء الاصطناعي إلى جانبه. *الرئيس التنفيذي للتسويق والابتكار والمعلومات في جونسون كنترولز العربية