الأشخاص الذين يؤجلون الزواج أو يرفضونه حاليًا لانشغالهم بالعمل وتحقيق الذات، أو لأنهم ينتظرون شريكًا بمواصفات خاصة يأتيهم على طبق من ذهب، هم في الواقع يغالطون أنفسهم ويظلمونها، وربما انتهى بهم الحال إلى العنوسة والعجز والوحدة.. في أواخر أكتوبر من العام الجاري نشرت صحيفة الوطن السعودية عن ظاهرة تمجيد العزوبية بين السعوديين والسعوديات، وبالأخص على السوشال ميديا، واعتقادهم أن السعادة والاستقرار لا يتوقفان عند الزواج وتكوين أسرة، والوصول إليهما ممكن من خلال الاستقلالية والتركيز على الذات، والظاهرة بدأت في المجتمعات الغربية أولاً مع دخول النساء الغربيات لسوق العمل، واستناداً للدراسات المتخصصة كان اهتمامهن بالحصول على وظيفة أكبر من الاهتمام بتكوين أسرة، وبمعدل عشرة أضعاف، وتأخير الزواج أو إلغاء التفكير فيه بالكامل، قد تدخل فيه أمور إضافية، كأن يكون بمثابة آلية دفاعية للتعايش مع ألم الوحدة، أو نتيجة لتجارب سابقة غير موفقة، مع أن الزواج في الأصل يقع في منطقة وسط ما بين الصراع والرومانسية، وافتراض المثالية فيه غير وارد، ولاشك ان أرقام عزاب المملكة لعام 2024، ليست مريحة، فالسعوديون الذين لم يسبق لهم الزواج من الجنسين، ممن هم دون 35 عاماً، نسبتهم معاً تزيد على 66 %، وحصة الرجال من النسبة السابقة 75 %، في مقابل 25 % للنساء. أتصور أن السابق يدخل في القيم الجديدة التى وضعتها الحداثة أمام الناس، فقد أصبحت أعوام التعليم أطول، وتأخر معها الدخول لسوق العمل، وتحولت الأسرة الممتدة إلى نووية، وكلها صعبت من مشروع الزواج وتكاليفه، ورفعت من معدلات الكبت الجنسي الصامت بين الناس، وفي رأي عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد، في كتابه "قلق في الحضارة" المنشور عام 1930، الكبت ضروري لبناء الحضارات وتطورها، بشرط أن يتم تنظيمه بطريقة تضمن تفريغ الفائض منه، بشكل منتظم ومقبول اجتماعياً. زيادة على ذلك، لاحظ زميله ستيوارت برودي في واحدة من دراساته المنشورة، أن الامتناع عن الجنس، إذا فرض على الشخص بالقوة، فإنه يزيد من معدلات القلق والضغط النفسي عليه، ويحفزه للبحث عن أساليب تعويضية سريعة، مثل الإفراط في تناول الأطعمة، أو إدمان السوشال ميديا، أو المسلسلات والألعاب، ولعل هذا يفسر أسباب نجاح تجارة المطاعم، ومعها تضخم أعداد مستخدمي المنصات الرقمية، وتفوقها على غيرها، وتحديداً في المملكة ودول الخليج والمنطقة العربية. الناس يحتاجون باستمرار إلى لمسة مشحونة بالمشاعر الدافئة، ويوجد مصطلح يسمونه (الجوع الجلدي)، ويقوم على فكرة أن جلد الإنسان يحتاج إلى اللمس، ويجوع إلى الدفء والاحتضان، مثل جوع الجسم للأكل، وفي حالة حرمانه، تظهر عليه علامات القلق والاكتئاب ونقص المناعة، وفي تجارب أجراها عالم النفس رينيه سبيتز على أطفال الملاجئ ونشرت نتائجها في الأربعينات الميلادية، وجد أن عدم لمس الأطفال واحتضاهم، قد يؤدي بعد مدة إلى تأخر نموهم العقلي، وسجل أن بعض من قام بدراستهم توفوا دون سبب عضوي، بينما من تم إشباع جوعهم الجلدي باللمس كانت أوضاعهم مستقرة، وبما أن السعوديات غير المتزوجات أقل من نظرائهم الرجال، فإن الاختيارات أمامهن أوسع، فيما يخص احتمالات الزواج والملامسة الشرعية. إلا أنها في نهاية الأمر لن تخرج عن مبدأ باريتو أو قاعدة 20/80، لعالم الاجتماع الإيطالي فيلفريدو باريتو، بمعنى أن 20 % من الرجال سيحصلون على 80 % من النساء، والبقية لا عزاء لهم، وذلك لأن توزيع الثروة في العالم يفيد أن 20 % من الناس لديهم 80 من الثروة، وأنهم في الغالب رجال، والنساء مهتمات بالأمور الاقتصادية، لأنها تعطيهن الإحساس بالأمان، وتضمن استقرارهن المالي، ولا عيب في ذلك، بالإضافة لنظرية التوقف المثالي في الرياضيات، والتي ترى أن يرفض الشخص 37 % من الخيارات المفروضة عليه، ومن ثم يقبل بأول عرض يأتي بعدها، ويتمسك به بدون تفكير، والمعنى أن الشخص اذا قرر الزواج في سن 35 عاماً، وهو في سن 18 عاماً، فالمفروض أنه قبل 37 % من الوقت، أو قبل سن 24 عاماً وستة أشهر، يرفض كل الخيارات، ومن ثم يقبل بأول خيار يصادفه، ويعطيه أفضل تقييم، وبمنطق حسابي خالص خارج دائرة العاطفة. استكمالاً لما سبق توجد معادلة يسمونها (دريك إكويجن) تم تطويرها بمعرفة العالم الأميركي فرانك دريك، وتقوم في الأساس بحساب كمية الحضارات الموجودة في المجرات، ولكن عالم الاقتصاد البريطاني بيتر بوكس، وظفها بطريقة مغايرة في ورقته البحثية، لحساب عدد النساء المتاحات له في الحياة، وناقش فيها مشكلته في عدم وجود امرأة تشاركه حياته، وحدد مواصفات من يبحث عنها، والتي اشترط وجودها في لندن، وكانت النتيجة أنها انطبقت على عشرة آلاف و510 نساء، في كل بريطانيا، ومن يطابقن مواصفاته وقد يجدنه جذاباً، من الموجودات في لندن كن 27 امرأة، والرقم منخفض جداً، ما يعني أن فرصة وصوله إليهن أشبه بالمستحيل، وبالتالي فالأشخاص الذين يؤجلون الزواج أو يرفضونه حاليًا لانشغالهم بالعمل وتحقيق الذات، أو لأنهم ينتظرون شريكًا بمواصفات خاصة يأتيهم على طبق من ذهب، هم في الواقع يغالطون أنفسهم ويظلمونها، وربما انتهى بهم الحال إلى العنوسة والعجز والوحدة.