في مثل هذا اليوم من العام 1906، افتتح في مدينة "الجزيرة" الساحلية الاسبانية، واحد من أهم المؤتمرات التي عالجت، في ذلك الحين، القضية المغربية. وهو المؤتمر الذي عرف باسم المدينة نفسها، وأوجد - بعد شهرين من المفاوضات والمناورات - حلا توافقياً، بين المانيا وفرنسا على وجه الخصوص، يتعلق بتقسيم النفوذ بينهما في المغرب الأقصى. قبل ذلك كانت الأوضاع تدهورت بين البلدين ما هدد باندلاع حرب بينهما. ووصل التدهور الى ذروته في العام 1904 حين ادى "اتفاق ودي" بين لندن وباريس، بصدد مصر، الى قفز الألمان حول الوقائع الجديدة ليبحثوا عن مكان لهم في المغرب. ولئلا يبدو هذا الكلام غامضاً ومتشابكاً نوضح، بأن تلك الفترة كانت الحقبة التي شهدت وصول المطامع الأوروبية بالمناطق الضعيفة الى الذروة، وراح الصراع يشتد بين الأمم المستعمرة للحصول على اكبر قدر ممكن من الغنائم الجغرافية في آسيا وأفريقيا وغيرها. حصة الأسد، كالعادة، كانت من نصيب الانكليز والفرنسيين، وكانت لاسبانيا بعض المكاسب، اما المانياوالنمسا فانهما، عبثاً، كانتا تسعيان لوراثة بعض المناطق الافريقية او تلك الخاضعة للاحتلال العثماني. لكن لندن وباريس كانتا بالمرصاد. فهما على الرغم من التنافس الشديد فيما بينهما ما كان في ودهما ان تسمحا للألمان بالحصول على شيء. في مصر ساد التنافس بين لندن وباريس لفترة، وهي الفترة التي استغلتها الحركة الوطنية المصرية فراحت تؤلب كلاً من العاصمتين ضد الاخرى. ولكن في العام 1904 قررت الدولتان العريقتان استعمارياً، التفاهم فيما بينهما بأن تكون مصر للنفوذ الانكليزي، وفي المقابل يتم الاقرار لفرنسا بالهيمنة في المغرب. وهنا أحسّ الألمان ان الوقت قد حان ليتحركوا. فتحركوا في اتجاه المغرب استباقاً لاكتمال السيطرة الفرنسية عليه. في المقابل شدد الفرنسيون من قبضتهم ومن مطالبهم في المغرب، متذرعين بأنهم يجب ان تكون لهم الكلمة الطولى هناك وعلى الأقل لأن لهم حدوداً طويلة مشتركة مع المغرب انطلاقاً من ان الجزائر فرنسية وان للجزائر حدوداً مع المغرب. وهكذا حمي وطيس الصراع بين برلين وباريس. ووصل الصراع الى ذروة جديدة حين قام القيصر الألماني بزيارة الى طنجة اعلن فيها ان المانيا ستبني وتدير مرفأ هذه المدينة. هنا كاد كل ذلك ان يؤدي الى حرب عنيفة. فاجتمعت الأمم الأوروبية الرئيسة المعنية بالأمر واتخذت قرارها بعقد مؤتمر الجزيرة، الذي افتتح يوم 16 كانون الثاني يناير ودام حتى نهاية شهر آذار مارس من ذلك العام 1906. خلال ذلك المؤتمر حصل الفرنسيون على دعم بريطانيا وايطاليا واسبانيا، اما الألمان فانهم لم يحصلوا الا على دعم النمسا التي لم تكن لها - على اية حال - اية كلمة في تلك المنطقة من العالم. من هنا لم يخف الألمان منذ البداية احساسهم بأنهم في المؤتمر معزولون.. غير ان موقفهم المتصلب طوال اسابيع التفاوض، اضافة الى الدور المزدوج والملتبس الذي لعبه الانكليز، عاد وقوى موقف الألمان بالتدريج. وهكذا حين انتهى المؤتمر اعلن الألمان والفرنسيون، كل من جانبه، ان ما تم التوصل اليه يرضيهم. اما النتائج الرئيسة التي اسفرت عنها المفاوضات، فكان في مقدمتها انه يتم الاعتراف باستقلال المغرب تحت سلطة السلطان. وفي المقابل تم الاعتراف لألمانيا بما كانت تطالب به من ان يكون من حق الأمم كافة الحصول على ممرات لها الى المغرب والمتاجرة معه، شرط ان يتم الاقرار لفرنسا بپ"وضعية خاصة" هناك. كل ذلك تم الاتفاق عليه، وكان من الواضح ان الألمان يتساهلون كثيراً لأن ليس لديهم شيء يخسرونه، فان ربحوا ربحوا كثيراً. غير ان النقطة التي أثارت القدر الأكبر من الخلاف فكانت تلك المتعلقة بالطرف الذي يتحمل مسؤولية الأمن في المغرب. وهنا تم الاتفاق على صيغة يتولى فيها ضابط امن كبير وضع تقارير ترفع الى السلطات ولكن كذلك الى رؤساء البعثات الديبلوماسية الأساسية في العاصمة. اما مسألة الأمن في المرافئ المغربية الأساسية فتتولاها اسبانيا وفرنسا شراكة. طبعاً نعرف ان الأمور تقلبت وتطورت كثيراً بعد ذلك، لكن المهم في ذلك الاتفاق انه وضع، على اية حال، اسس الهيمنة الفرنسية على المغرب، تحت سمع وبصر القوى الأوروبية، مع حصة لهذه الدولة او تلك، مع ملاحظة غياب طرف اساسي هو... المغرب نفسه، بشعبه وحكومته.الصورة: مغاربة في المؤتمر