الانشغال العربي بنتانياهو يُخشى أن يكون من نوع الغرق في شبر ماء اذا ما قيس بغيره. هذا ليس لأن نتانياهو قليل الخطورة، بل لأن الاستغراق فيه يُنسينا الخطر الأكبر الذي هو أشبه بالمحيط، الذي لا نعيره اهتماماً. فقبل ايام أقرّت 11 دولة في اوروبا اليورو عملة موحدة لها. 11 دولة سيدة تخلت بمحض ارادتها عن سيادتها في واحد من مجالات السيادة الحميمة: صك النقد واصدار العملة. وبين العملات التي تم التخلي عنها، طوعاً أيضاً، مفاخر وطنية كالمارك الالماني والفرنك الفرنسي. 4 دول في اميركا اللاتينية هي الأعضاء في مجموعة "التجارة الحرة" البرازيل، الأرجنتين، الأوروغواي والباراغواي قررت ان تحذو حذو اوروبا الغربية فتوحّد عملاتها في غضون عشر سنوات من الآن. الولاياتالمتحدة التي استشعرت التحدي المطروح على الدولار، وعلى التجارة، بدأت تطرح أفكاراً جديدة من النوع الاستباقي: فتحت وطأة المنافسة الجدية الأولى لعملتها منذ نجحت في الحاق الهزيمة بالجنيه الاسترليني، يعلو صوت "التنسيق الأطلسي". وبعض المستقبليين يقولون ان 1998 في ما خص العلاقات الأميركية - الأوروبية هي 1957 في ما خص العلاقات الأوروبية - الأوروبية، أي أنها لحظة البداية التأسيسية التي تقطف أوروبا ثمارها الآن. على صعيد آخر تتوالى الاندماجات: يكفي القول، استشهاداً بآخرها، ان ديملر بنز مرسيديس وكرايزلر اندمجت باندماجهما عائدات قيمتها 135 بليون دولار، أي ما يتعدى مداخيل 11 دولة عضواً في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي. الكاتب البريطاني ويل هتن ليس الوحيد الذي يتحدث عن "عصر متعددي الجنسية الذي يفتح الباب أمام شكل جديد من عمل مؤسسات البيزنس: انه الشركة الكونية. قوتها المخيفة خطرٌ على أي تصور نحمله عن السيادة الوطنية. أهم من هذا أنها تخلق حضارة كونية جديدة مسوقة بأخلاق البيزنس ومنطقه، وهو ما يطرح تحدياً مباشراً على صميم التصور الغربي للديموقراطية والفردية ... مديري ديملر - كرايزلر ينتمون الى لا بلد. انهم سوف يستخدمون موقعهم الرعائي للشركة الكونية في الجامعات ومعاهد البحث، لا لكي يخدموا مصلحة مشتركة، بل لكي يخدموا مصلحة ديملر - كرايزلر. أجورهم الخيالية سيتم ايداعها في مصارف المناطق الحرة المعفاة من الضرائب، بحيث لا يُدفع إلا القليل من الضريبة لأية أمة - دولة. وهكذا دواليك". بيار بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي الشهير، يتهيأ لتشكيل حركة من أهدافها فرض ضريبة على هذه الشركات الكونية وحركة سيولتها المالية التي تتم من وراء ظهر الجميع دولاً وأفراداً ومجتمعات... العينات كثيرة، والمواقف منها كثيرة. مع هذا هناك عنصر مشترك بينها هو انها تدل الى زمن جديد لا يترك شيئاً خارج تأثيراته: في الاقتصاد كما في السياسة، وفي الثقافة كما في التنظيم المؤسسي والاجتماعي. اما نحن فلا ننصت السمع كلياً الى هذا الذي يجري، مشدودين بكل ما أوتينا من قوة الى صراخ عقيم: شتم نتانياهو والولاياتالمتحدة في السياسة، وسجال الأصالة والحداثة، ومؤخراً هجاء التطبيع والعولمة، في الثقافة، والبكاء الذي لا ينقطع في مناسبات البكاء الكثيرة ما بين نكسات ونكبات. والحال أنه يخَيّل للمتابع أننا محكومون بزمن آخر يتزايد انفصاله عن الزمن الحي لا بصفته زمناً أوروبياً - أميركياً فحسب، بل أيضاً بصفته زمناً اسرائيلياً. وكل من تابع السجالات الدائرة في اسرائيل بمناسبة ذكرى ولادتها الخمسين، والتي تصل في شكوكها الذاتية الى أقصاها، يتيقّن من أن أفضل ما يمكننا فعله أن نحيي شاعراً رحل، ونغط في نوم عميق.