في زمنٍ تتسابق فيه الاقتصادات نحو مواردَ جديدةٍ للنمو، تبرُز الثقافةُ كأحد أكثر القطاعات الغنية والمتنوعة، بما تحمله من مقوماتٍ يمكن أن تتحول إلى فرصٍ استثمارية واعدة تملك القدرة على خلق العديد من الوظائف، وتمكين المبدعين، وبناء شراكاتٍ متينة مع القطاع الخاص، فالثقافة ليست مجرد محتوى يعكس هوية الشعوب، بل هي منظومةٌ إنتاجية متكاملة تجمع بين التراث والإبداع والابتكار، وتوفر مساحةً رحبة للمستثمرين الباحثين عن قيمةٍ مستدامة وعوائد طويلة الأمد. في المملكة، تحولت الثقافةُ إلى رافدٍ اقتصادي صاعد مدفوع برؤية السعودية 2030، التي وضعت الاقتصاد الإبداعي في صلب أهدافها التنموية. وخلال السنوات الأخيرة، ظهرت مؤشراتٌ ملموسة تؤكد هذا التحول، إذ ارتفع عددُ التراخيص الثقافية الممنوحة للممارسين المحترفين إلى أكثر من تسعة آلاف ترخيص، وتضاعف عددُ الجمعيات والمؤسسات والأندية الثقافية في القطاع غير الربحي من 28 فقط في عام 2017م إلى نحو 993 جمعية عام 2024م. هذه الأرقام لا تُقرأ بوصفها إحصاءاتٍ جامدة، بل باعتبارها علاماتٍ بارزةً على ازدهار السوق الثقافي وسرعة نموه، وقدرته على جذب المستثمرين المحليين والدوليين. لا ينحصر الاستثمار في الثقافة على إنشاء مسرحٍ أو دعمِ إنتاجٍ سينمائي أو إقامة معارض فنية، بل يمتد إلى شبكاتٍ أشمل تتضمن الصناعات الإبداعية والتقنيات الرقمية والحقوق الفكرية وسلاسل التوزيع والتسويق، وهو ما يُعدّ استثماراً مضاعف الأثر، يخلق العديد من الوظائف المتخصصة، ويحفّز في الوقت ذاته قطاعاتٍ مساندةً مثل السياحة، والضيافة، والخدمات التقنية، والإعلامية، وبهذا النهج تصبح الثقافة محركاً تنموياً يربط بين الهوية الوطنية والاقتصاد العالمي. وفي ظل هذا الزخم، يأتي "مؤتمر الاستثمار الثقافي" الذي تنظمه وزارةُ الثقافة في الرياض يومَي 29 و30 من سبتمبر الجاري ليضع هذه الرؤية موضع التنفيذ، حيث يحظى المؤتمر برعاية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وليِّ العهد رئيسِ مجلس الوزراء -حفظه الله-، ويشكّل نقطةَ التقاءٍ بين المستثمرين والمبدعين والقطاعَين العام والخاص، لبحث التوجهات المستقبلية للأسواق الثقافية الناشئة، وفي مقدمتها السوق السعودية، ويشارك في جلساته أكثر من 100 شخصية بارزة من صناع القرار والقيادات الثقافية العالمية، ما يعكس الطابع الدولي لهذا الحدث، ويؤكد على أن الثقافة السعودية باتت لاعباً أساسياً في المشهد العالمي. كما يُنتظر أن يُترجِمَ المؤتمرُ بحواراته وشراكاته المرتقبة قناعةً راسخة بأن الثقافةَ ثروةٌ وطنية لا تُقاس برموزها الجمالية فقط، بل بما تولّده من فرصٍ اقتصادية، وهو أيضاً إعلانٌ عملي على أن الاستثمار في الثقافة لم يعد خياراً جانبياً، بل مساراً رئيسياً في بناء اقتصادٍ مستدام يُعزز جودة الحياة، ويفتح آفاقاً جديدة للشباب المبدع، ويؤسس لمدنٍ أكثر حيويةً وازدهاراً. وتكمن قوة الثقافة في قدرتها على أن تكون جسراً بين الماضي والمستقبل، وبين الإبداع الفردي والتنمية الوطنية، وما "مؤتمر الاستثمار الثقافي" إلا انعكاسٌ لرؤيةٍ تهدف إلى تحويل هذا الثراء إلى قيمةٍ اقتصادية تُسهم في صنع الغد، وتضع المملكة في موقع الريادة كوجهة رئيسة للاقتصاد الإبداعي العالمي.