تشهد المملكة العربية السعودية تحولات ثقافية كبرى في إطار رؤية 2030، حيث أصبح الاستثمار في التنوع الثقافي إحدى ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولم يعد التراث والتنوع الثقافي مجرد مكونات للهوية الوطنية، بل باتت تُستثمر كمحركات للنمو السياحي والصناعات الإبداعية، ووسيلة لتعزيز المكانة الدولية للمملكة. وتهدف المملكة إلى رفع إسهام القطاع الثقافي إلى 3 % من الناتج المحلي بحلول 2030، بما يعادل نحو 180 مليار ريال، بعد أن كانت النسبة أقل من 1 % سابقاً. وفي هذا السياق، سبق وصرّح وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان: بأن «القطاع الثقافي ليس قطاعاً ترفيهياً فقط، بل هو صناعة قائمة بحد ذاتها، تسهم في تعزيز اقتصادنا الوطني وتوفير فرص العمل لشبابنا». وتشير بيانات الهيئة العامة للإحصاء (2023) إلى أن نحو 80 % من الأفراد (15 سنة فأكثر) شاركوا أو زاروا فعاليات ثقافية خلال عام واحد، بينما بلغت نسبة حضور الفعاليات الترفيهية 90 %، ما يعكس حجم التفاعل المجتمعي المتنامي مع الثقافة. كما سجّلت المملكة نمواً ملحوظاً في أعداد السياح والإنفاق السياحي خلال السنوات الأخيرة، متجاوزة أهدافها المعلنة، وهو ما ينعكس إيجاباً على الطلب المتزايد على المنتجات والخدمات الثقافية. شواهد عملية ولنأخذ مثالاً ثقافيا كمشروع العُلا فهو يعد نموذجاً بارزاً لتحويل موقع تاريخي إلى وجهة سياحية ثقافية راقية، بما يتضمنه من مهرجانات ومتاحف وفنادق فخمة، أسهمت في جذب الاستثمارات العالمية. كما يشكّل مشروع الدرعية مثالاً آخر على إعادة توظيف المواقع التراثية ضمن رؤية اقتصادية حديثة. والعُلا ليست مجرد موقع تاريخي، بل قصة حضارة نرويها للعالم، ونفتح من خلالها آفاقاً للاستثمار الثقافي والسياحي المستدام. وقد بادرت وزارة الثقافة بإطلاق مبادرات واسعة لدعم الصناعات الإبداعية مثل السينما، الأزياء، والموسيقى، ما جذب إنتاجات عالمية وأوجد فرصاً جديدة للشباب السعودي. وهذا يعود بالنفع على الأثر الاقتصادي والاجتماعي بالمملكة، كما يسهم الاستثمار في التنوع الثقافي في خلق وظائف مباشرة وغير مباشرة في قطاعات السياحة، والضيافة، والصناعات الحرفية، والمحتوى الإبداعي. وتشير التقديرات إلى أن التوسع في المشروعات الثقافية سيولد عشرات الآلاف من الوظائف بنهاية العقد الحالي. كما يعزز هذا الاستثمار من قيمة الإنفاق السياحي عبر توفير تجارب ثقافية غنية، إضافة إلى تمكين المجتمعات المحلية من تسويق منتجاتها التراثية والحرفية للأسواق العالمية. وفي هذا الإطار، قال وزير السياحة أحمد الخطيب: ثقافتنا وتراثنا هما ركيزة السياحة السعودية، ومن خلالهما نصنع تجارب فريدة تجذب العالم بأسره». رغم الفرص الكبيرة، هناك تحديات تواجه عملية الاستثمار في التنوع الثقافي وأبرز هذه التحديات: مخاطر تسليع التراث وإضعاف أصالته، والضغوط البيئية والاجتماعية الناتجة عن المشروعات السياحية الضخمة. ولكن هناك العديد من التوصيات التي ستسهم في ازدهار الموروث الثقافي مثل: ربط الاستثمارات بخطط واضحة لحماية التراث وإشراك المجتمعات المحلية، وتنويع المنتجات الثقافية بين التراث التقليدي والعروض العصرية مثل المهرجانات والسينما والأزياء، وتوفير حوافز مالية للمستثمرين مع آليات لقياس الأثر الاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى ذلك تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية مثل اليونسكو لضمان استدامة وحماية الهوية الثقافية. واستثمار المملكة العربية السعودية في التنوع الثقافي ليس مجرد مشروع ترفيهي، بل هو خيار استراتيجي يسهم في بناء اقتصاد متنوع ومستدام، ويعزز من مكانة المملكة إقليمياً ودولياً. تنمية شاملة ومع استمرار تنفيذ رؤية 2030، يتضح أن الثقافة ستظل أداة محورية لتحقيق التنمية الشاملة. وبهذا سيتحوّل القطاع الثقافي في المملكة من نشاط داعم إلى رافعة اقتصادية لها صناديق تمويل، ومشروعات بنية تحتية، وحوافز تنظيمية تستهدف خلق وظائف، وجذب السياح، وتنمية المحتوى المحلي. وتقود وزارة الثقافة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية للثقافة عبر 16 قطاعًا فرعيًا تشمل التراث، المتاحف، الأفلام، الموسيقى، الأزياء، العمارة والتصميم، النشر والترجمة، الفنون البصرية وغيرها، بما يربط الثقافة بمستهدفات جودة الحياة والاقتصاد المزدهر ضمن رؤية 2030. وقد نجحت صناديق وآليات التمويل للتحول من المنح إلى الاستثمارات المشتركة، فصندوق التنمية الثقافي يمثّل المُمكّن المالي الرئيس للقطاعات الثقافية الستة عشر، ببرامج تمويل وحوافز وشراكات مع القطاع المالي. وسبق وأطلق برنامج تمويل قطاع الأفلام بمحفظة 879 مليون ريال، كما قدّم تمويلًا غير مستردّ بقيمة 181 مليون ريال بالتعاون مع برنامج جودة الحياة. ويؤكد الصندوق أنه تجاوز 240 مليون ريال دعمًا مباشرًا لصناعة السينما حتى أواخر 2024. وصندوق الأفلام السعودي برأسمال 375 مليون ريال عبر مدير الأصول مع إسهام 40 % من مستثمرين مؤسسيين، لتمويل شركات ومشروعات السينما محليًا. ويعد صندوق فعاليات القطاعات ذراعاً استثمارياً للبنية التحتية الثقافية والترفيهية والسياحية وتأمين (صالات، ومسارح، وقاعات مؤتمرات ومعارض)، لخلق أصول عالمية المستوى وتحسين جودة الحياة. ومن خلال بنية تحتية ثقافية تتشكّل مدن للثقافة وصناعة الإبداع، فمشروعٌ جيغا بقيادة صندوق الاستثمارات العامة) يهدف لتطوير الدرعية كمدينة ثقافية حول موقع الطريف المدرج على قائمة اليونسكو؛ وسجلّت 3.6 ملايين زيارة حتى منتصف 2025، واستقطبت استثمارات بمليارات الريالات وتتقدم نحو هدف 50 مليون زيارة بحلول 2030. ويعد حي جاكس - الدرعية تحوّل موقعٌ صناعي إلى حيٍّ إبداعي يضم (أول متحف سعودي للفن المعاصر)، ومعارض، ووكالات إبداع، وأحداث تصميم دولية. مشروعات عالمية ويعد الرياض آرت واحدا من أكبر مشروعات الفن العام عالميًا، لتركيب أكثر من 1000 عمل فني ودعم مهرجان «نور الرياض» السنوي، حيث سبق وأعلنت الهيئة عودة النسخة الخامسة خلال نوفمبر - ديسمبر 2025. ويعد العلا إستراتيجية النمو المُستدام الخفيف الأثر، ووثّقتها تقارير سنوية؛ ويُقدَّر إسهام القطاعات غير السياحية في الناتج بما يقارب 7 مليارات ريال وفق تصريحات رسمية. كما أن حديقة الملك سلمان تعد مشروعاً حضرياً وثقافي عملاق يتضمن المجمّع الملكي للفنون، ومسرحًا وطنيًا (2300 مقعد)، وسينما وقاعات متعددة، ضمن منظومة ثقافية - ترفيهية خضراء في قلب الرياض. وهناك العديد من القطاعات أمام المستثمرين مثل: الأفلام والمرئي - المسموع، فبعد رفع حظر السينما في 2018، سجّل القطاع قفزات لوجستية وتنظيمية وحوافز إنتاج تصل حتى 40 % استرداد للتكاليف، مع استوديوهات حديثة قرب العلا، ومهرجان البحر الأحمر بصندوق دعم للمشروعات في مراحل التطوير وما بعد الإنتاج. وتقدّر Omdia أن المملكة تصدّرت المنطقة بنحو 803 شاشات نهاية 2024. وأطلق برنامج تمويل الأفلام (879 مليون ريال) وأُنشئ صندوق أفلام خاص (375 مليون ريال) لتمويل السلسلة القيمية من الإنتاج إلى التوزيع. وفي مجال الأزياء والصناعات الإبداعية، فإن تقرير حالة قطاع الأزياء 2024: فإن إسهام القطاع وصل 2.5 % من الناتج المحلي في 2023، وسوق بقيمة 30 مليار دولار مرشّح لبلوغ 42 مليارًا بحلول 2028، مع تمثيل نسائي يتجاوز 50 % من القوى العاملة. أما الموسيقى فتعمل هيئة الموسيقى على بناء بنية تحتية وتنظيم مهني (تراخيص، أطر حوكمة، جمعيات مهنية) ومنصات تعليم رقمية مثل MusiqAI، إلى جانب مبادرات لتشكيل الفرقة الوطنية. وعن الفنون البصرية والمتاحف، فقد تم خلال (2013ه/2023م) إطلاق منصّة دائمة للفن المعاصر في جاكس، وبرامج المعارض والإقامات ودعم الفنانين، ضمن سياسة أوسع لتمكين الفنون البصرية. وفي مجال الأدب والنشر والترجمة باتت معارض الكتاب (الرياض/ جدة) سوقًا مهنية للناشرين ووكلاء الحقوق؛ وقد استقطب معرض الرياض الدولي للكتاب آلاف الناشرين من نحو 30 دولة في دوراته الأخيرة، بإدارة هيئة الأدب والنشر والترجمة وبرامج تطوير للقطاع. حماية فكرية والحماية الفكرية (حقوق الملكية الفكرية: حقوق المؤلف، العلامات التجارية، براءات الاختراع، حقوق الأداء، إلخ) تنعكس بشكل مباشر على الاستثمار الثقافي، وبشكل غير مباشر على الاقتصاد الأوسع. وانعكاس الحماية الفكرية على الاستثمار الثقافي يسهم في تحفيز الإنتاج الإبداعي: فعندما يطمئن المبدعون والفنانون أن أعمالهم محمية قانونياً من النسخ أو الاستغلال غير المشروع، يصبح لديهم دافع أكبر للإبداع والاستثمار في مشروعات جديدة. كما أن جذب الاستثمارات الأجنبية مثل: شركات الإنتاج السينمائي والموسيقي والناشرين العالميين لا يدخلون سوقاً إلا إذا كان هناك نظام حماية فاعل يضمن عوائدهم.كما أن توسيع الصناعات الإبداعية تنتعش بوجود حماية قوية يشجع على تأسيس شركات ناشئة في مجالات التصميم، الأزياء، النشر الرقمي، الألعاب الإلكترونية، والوسائط المتعددة. ويسهم بانعكاسها على الاقتصاد الأوسع ورفع الناتج المحلي بالصناعات الثقافية والإبداعية والتي تمثل في بعض الدول (مثل كوريا الجنوبية وبريطانيا) ما بين 5 % – 7 % من الناتج المحلي، بفضل أنظمة حماية قوية تسمح بتحويل الأفكار إلى منتجات قابلة للتسويق. ويسهم ذلك في خلق وظائف نوعية فالملكية الفكرية تُنتج وظائف في قطاعات التكنولوجيا، الإعلام، الفنون، البحث العلمي، وحتى التجارة الإلكترونية. وزيادة الصادرات غير النفطية، فالمحتوى الثقافي (أفلام، موسيقى، ألعاب فيديو، كتب، تصاميم أزياء) يمكن أن يصبح سلعة تصديرية مربحة، إذا كان محمياً وذا علامة تجارية قوية. ويسهم ذلك في تعزيز صورة الدولة، فحماية الملكية الفكرية تعكس جدية بيئة الاستثمار، ما يجعل الاقتصاد أكثر جاذبية لرؤوس الأموال العالمية. ومن المخاطر في غياب الحماية القرصنة والنسخ غير المشروع ما تؤدي إلى خسائر بالمليارات وتثني المستثمرين الدوليين. وتضعف الثقة لدى المبدعين المحليين في جدوى الاستمرار. وتعمل على تشويه السوق بسبب منافسة غير عادلة بين المنتج الأصلي والمقلّد. وباختصار فالحماية الفكرية هي البنية التحتية القانونية التي تجعل الاستثمار في الثقافة والصناعات الإبداعية ممكناً ومجزياً. وكلما كانت منظومة الحماية متينة وشفافة، كان أثرها على الاقتصاد الأوسع أوضح في شكل وظائف، صادرات، ونمو مستدام. استثمار ثقافي وفي الإطار التنظيمي وحماية الملكية الفكرية توفر الهيئة السعودية للملكية الفكرية إطارًا مُحدَّثًا لحقوق المؤلف والعلامات والبراءات، مع تحسينات ملحوظة في المؤشرات الدولية خلال 2025، ما يطمئن المستثمرين على حماية الأصول غير الملموسة والعقود. وبهذا ينعكس الاستثمار الثقافي على الاقتصاد الأوسع، من خلال السياحة والثقافة، فالمملكة استقبلت 30 مليون زائر دولي في 2024، وحققت نموًا عالميًا متصدرًا في إيرادات السياحة؛ فالفعاليات الثقافية والمهرجانات ترفع مدة الإقامة والإنفاق وتغذي قطاعات الضيافة والتجزئة. وسجلت الفعاليات الجماهيرية في فعاليات 2024 نحو 76.9 مليون زيارة في 423 وِجهة عبر المملكة، ما يعكس تعاظم العائد غير النفطي للثقافة والترفيه. ومن أبرز الأرقام كملخّص سريع فإن 16 قطاعًا ثقافيًا ضمن الإستراتيجية الوطنية. وهناك بعض التحديات مثل: تطوّر المهارات وسلاسل القيمة، والحاجة إلى مضاعفة التدريب المهني وإتاحة التمويل التشغيلي لروّاد الأعمال الصغار والمتوسّطين في النشر، الإنتاج الموسيقي، ما بعد الإنتاج السينمائي، وتصميم الأزياء. وهناك فرص عملية للمستثمرين وروّاد الأعمال مثل: تمويل المحتوى والاستفادة من برامج CDF وصندوق الأفلام والمنح، وبناء محافظ إنتاج مشتركة مع استرداد نقدي يصل حتى 40 % في بعض مواقع التصوير. كما أن التصميم والأزياء تعد سلاسل لتوريد محلية (أقمشة، مصانع خفيفة)، وتسويق علامات سعودية عبر "Saudi 100 Brands" وفعاليّات دولية. وتطوير البنية الثقافية لتشغيل المسارح وقاعات العروض وصالات المؤتمرات والمتاحف الخاصة بالشراكة مع كيانات المدن الكبرى. والفنون العامة والمعارض المشاركة في برامج الرياض آرت، ومنصّات جاكس ومعارض العلا، وما يرتبط بها من عقود إنتاج وتركيب وخدمات تقنية. والقادم أجمل حيث تتّجه البوصلة إلى مؤتمر الاستثمار الثقافي الذي تنظمه وزارة الثقافة في سبتمبر 2025 بمشاركة أكثر من 100 متحدث و38 جلسة، لتوسيع الشراكات وتوحيد السياسات التمويلية، وإطلاق مسارات جديدة لتمويل القيمة المضافة الثقافية. والاستثمار الثقافي في المملكة العربية السعودية لم يعد عنوانًا إنشائيًا؛ فهو شبكة متكاملة من الصناديق، والهيئات، والمشروعات الحضرية، والمهرجانات، والمنظومات التنظيمية التي خلقت سوقًا واعدة للمحتوى، والفعاليات، والأصول الثقافية. ومع اقتراب المملكة من استحقاقاتٍ عالمية (إكسبو 2030، كأس العالم 2034) ستزداد الحاجة لمنتجات ثقافية محلية أصيلة وقابلة للتصدير، ما يفتح شهية المستثمرين على قطاع يوازن بين الهوية والقيمة الاقتصادية.