برحيل زعيم حركة التغيير الكردية نيشروان مصطفى قبل أيام، دخلت الحياة السياسية والعامة في إقليم كردستان العراق طوراً جديداً تماماً. فمصطفى كان مؤسساً لحركة سياسية واجتماعية شكلت ببرنامجها وخطابها وعالمها القيمي، قطيعة مع الأحزاب السياسية الكردية التقليدية، بما في ذلك حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي كان نيشروان مصطفى أحد مؤسسيه وقادته لأكثر من ثلث قرن. ففيما كانت الأحزاب الكردية مشغولة بقضايا التحرر الكردي وعلاقة الكرد في الإقليم المضطرب مع المحيط العراقي المحلي والقوى الإقليمية غير المرتاحة للوضع الكردي الاستثنائي في إقليم كردستان، فإن حركة التغيير منذ نشأتها عام 2009 كانت تطلق شعارات الإصلاح السياسي والاقتصادي الداخلية، متوجهة في شكل كثيف لأن تكون القضايا الداخلية هي جوهر الصراع في المسألة السياسية والاجتماعية. مشيرة بكثافة إلى ما يعانيه أبناء الإقليم من فساد واحتكار سياسي واقتصادي، وكيف أن سوء عدالة توزيع العائدات المادية والرمزية في الإقليم سيؤدي إلى انهيار عام تتحطم معه كل المنجزات الاستثنائية التي حققها الكرد العراقيون. ملك ذلك المسعى شرعية شعبية غير قليلة، خصوصاً أنه في التجربة السياسية - الاقتصادية في إقليم كردستان العراق خلال ثلث قرن، لم يكن ثمة سابقة يمكن الإشارة إليها في ما خص تجربة الكفاح السياسي- الاجتماعي الداخلي، مطابقة لتجارب الدول الناضجة الحديثة في العالم، حيث تضع القوى السياسية الحاكمة برامج سياسية اجتماعية واقتصادية داخلية بالأرقام والأهداف، ثم تنشط كل مؤسسات الدولة ومواردها لتحقيق هذه الأهداف. كان نمط الحكم في الإقليم منذ نشأته عام 1992 أشبه ما يكون بتجارب حكومات ما بعد الاستقلال، وبالذات النمط الجزائري في الستينات والسبعينات. فالقادة السياسيون والأحزاب يملكون فيضاً من الشرعية جراء ما خاضوه من حروب شرسة ضد القوى الخارجية. لذا بعد التحرير مباشرة راحوا يرعون الحياة العامة بأبوة مستعلية، مستغنية في شكلٍ فعلي عن الشرعيات الأخرى، خصوصاً منها الانتخابية القائمة على النقاش العام حول القضايا والتفاصيل الحياتية الداخلية التي كانت تعتبرها مجرد تفاصيل إدارية لا أكثر. لذلك، غرقت التجربة الكردية في الأوحال التي غرقت تجارب أخرى فيها. إذ توقفت عجلة التنمية عن حدود النمو الاقتصادي المتواضع، ولم تستطع المؤسسات الجديدة المضخمة استيعاب ملايين الراغبين الجدد في الانتماء إليها ودخول المتن العام. وعلى المنوال ذاته، تكونت شبكات الفساد الكبرى، وبات الطامحون يفوقون بكثير القادة الذين أسسوا للاستقلال الفعلي عن الدولة العراقية، وأيضاً في الطريق إلى الآن ارتكب الكرد العراقيون الخطيئة التي لا مفر منها في سيرة كل حركات التحرر التي نالت استقلالها، أي الحروب المتقطعة بين «الإخوة الأعداء». ضمن هذا السياق في تجربة كردستان المتواضعة، يمكن الإشارة إلى نجاح نوعي نسبي في أكثر من مجال: توسيع قاعدة التعليم العام، قضايا حقوق النساء، توسيع شبكة الخدمات، وبالذات الخدمات الصحية. وفوق كل ذلك شهدت كردستان أول عشرين عاماً من السلام الاجتماعي، وصارت ملجأ لمئات الآلاف من اللاجئين والمهاجرين، من جميع الأديان والأعراق، من العراق وعدد من دول الجوار. كانت حركة التغيير الكردية محاولة للقطع مع كل ذلك، والقول بمعنى ما: هذه المعادلة الداخلية القائمة على منح سلطة وهيبة عامة للحزبين الرئيسين إنما تملك بعداً تلفيقياً، بل ثمة مجتمع كردي واسع الخيارات والتطلعات، أساسه الطبقة الوسطى التي يجب أن تتبلور حول قضايا الديموقراطية والمدنية واحترام حقوق الإنسان والمشاركة في السلطة والحياة العامة وفق الكفاءة والجدارة، لا الولاء والعائلة والتبعية لهذا التيار السياسي أو ذاك. لاقى ذلك الخطاب رواجاً منقطع النظير في أوساط الطبقات الوسطى من أهل المدن ذوي التعليم العالي. فبعد تأسيسها بشهورٍ قليلة عام 2009 حصلت الحركة على المركز الثالث في الانتخابات التشريعية في الإقليم، وشكلت حزب المعارضة الأول في البرلمان. ثم رفعت رصيدها في شكلٍ استثنائي في انتخابات 2013 لتكون الحزب الثاني في الإقليم، الأمر الذي أدى برئيس وزراء الإقليم المكلف وقتئذ نيجرفان بارزاني لأن يقول إن التمثيل الذي اثبتته حركة التغيير صار معه من المستحيل عدم مشاركتها في السلطة. شاركت الحركة في السلطة السياسية، وبعد توافق الأحزاب الثلاثة صار أحد اعضائها رئيساً لبرلمان الإقليم، وأربعة من أعضائها وزراء في التشكيلة الحكومية، وأحدهم تسلم حقيبة وزارة المال الحساسة في الإقليم. لكن الأحوال ما لبثت أن تدهورت بين الحركة والحزب الديموقراطي الكردستاني، بسبب الصراع على مركز رئيس إقليم كردستان العراق. ففيما كان الديموقراطي يصر على أن الحوار والتوافق أساس تحديد مصير ذلك، كانت الحركة تصر على تشكيل تحالفٍ سياسي خارج ذلك التوافق وإطاحة رئيس الإقليم الحالي من داخل البرلمان. ولذلك بلغ الصراع ذروته بعد منع رئيس البرلمان من دخول العاصمة أربيل وتوقف الحياة البرلمانية في الإقليم وعزل وزراء الحركة الأربعة. ويجدر القول إنه خلال هذه المسيرة القصيرة من محاولة القطع مع النمط التقليدي للحياة السياسية والعامة في الإقليم، فإن حركة التغيير لم تكن محمية من الدخول في الديناميكيات التقليدية التي كانت تسيطر على الحياة العامة. فالحركة منذ نشأتها كانت متمركزة حول زعامة نيشروان مصطفى، ولم تكن العلاقات في الحلقات القيادية العليا في الحركة بعيدة من القرابة العائلية والعلاقات الأهلية. على أن أخطر ما لم تستطع الحركة تجاوزه هي المناطقية. فطيلة عمرها السياسي لم تخرج من كونها حركة سياسية متمركزة حول أهالي مدينة السليمانية. فالغالبية المطلقة من مقاعدها البرلمانية الإقليمية والمركزية حصدتها من محافظة السليمانية، وإلى المدينة ينتمي أغلب قادة الحركة الفعليين، وحول مسألة مظلومية المدينة تجاه العاصمة أربيل بنت الحركة جزءاً غير يسير من خطابها ومطالبها السياسية، لذا فإنها عادت لتتطابق مع الحزبين الرئيسين في مسألة المناطقية وتقاسم النفوذ. برحيل نيشروان مصطفى تكون حركة التغيير انهت مرحلتها التأسيسية، وسيحدد توزيع تركة هذه الزعامة هوية الحركة ومصيرها. وتتوزع لائحة الورثة بين قادة الحركة المتزاحمين، وبين مسعى الاتحاد الوطني الكردستاني لأن تعود الحركة إلى أصلها الذي انشقت عنه، وكذلك الحزب الديموقراطي الكردستاني وبقية الأحزاب التي سعت حركة التغيير لأن تخوض صراعاً سياسياً مفتوحاً معها. إقليم كردستان ليس خارج حركة التاريخ اليوم، وهو على المستوى الإقليمي، أو حتى العالمي، من أكثر مناطق العالم حيوية وتأثيراً. وكانت حركة التغيير واحدة من التحولات النادرة التي أرادت أن تحدث تغييراً حقيقياً وعميقاً في الإقليم. وهي نجحت في بعض التفاصيل، وانجرفت في تفاصيل أخرى إلى الخضوع للشروط الموضوعية للحياة العامة في الإقليم. وبحسب شكل توزيع تركة زعيمه الراحل نيشروان مصطفى، فإنه سيظهر أي من المسارين سيستمر. * كاتب سوري.