من نافل القول إن ظاهرة العولمة ظاهرة شبه جديدة ذات حوامل إعلامية واقتصادية وسياسية عصرية ومختلفة، مما يعني ضرورة توليد آليات لفهمها، وإلا حكمنا عليها من منظور مسبق بمفاهيم قديمة. وهنا يكمن الفارق بين خطاب يعمل على نقد العولمة من منطق الفهم أولاً، ثم المواكبة ثانياً، وبين خطاب يكتفي بوصف العولمة على أنها نمط استعماري امبريالي قديم تحلى بثوب جديد لن يمكّننا من فهم بنيتها الداخلية وآلية عملها. الإصرار على التمترس وراء النماذج والقوالب التاريخية يكرس العزلة المعرفية ويستتبع بالتالي عدم القدرة على التحاور في شكل مرن مع الآخر الذي أصبح يملك في الوقت الحالي زمام المبادرة. هذا الخطاب ما زال ينتمي إلى زمان النضال الإيديولوجي، فهو لا يتصدى للثورة التقنية والمعلوماتية بعقل يعمل على استيعاب ما أنجز، بل يعيد استخراج أسلحته القديمة التي أصابها الصدأ ليتعامل مع أحداث كونية جديدة. ويمكن اعتبار اليسار العربي التقليدي نموذجاً مثالياً لهذا النوع من الخطاب. إذ يرى بعض رواده أن العولمة ليست ظاهرة جديدة، بل موجة ثالثة من التوسع الاستعماري. وبمثل هذا الاختزال يعجز هذا الخطاب عن فهم هذه الظاهرة المستحدثة عندما يعيدنا إلى ما يسميه «الظاهرة الاستعمارية». مع أن المطلوب هو العكس تماماً، أي إدراك ما يميز استعمارها الجديد، أو إذا شئنا الدقة نظام هيمنتها العولمية بالمقارنة مع النظم الاستعمارية السابقة. يقع العالم العربي اليوم في موقف الهامشية، وهو لذلك لا يتأثر كثيراً برفضه العولمة لأنه أساساً ليس عضواً في المنظومة العالمية التي تكونها. هذا الرفض لا يمكنه من الإبقاء على خطوط أكبر للاحتفاظ بمواقعه في التراتبية الدولية، أي من سيرورة التطور الحضاري الراهنة. وبالتالي، فإن الدخول في العولمة وتقنيتها وميادينها أمر حتمي ومفروض على كل مجتمع يريد أن يبقى في دائرة المجتمعات التاريخية، ولا ينسحب من الفعالية الدولية المشتركة ويعيش في عالم خاص به على الطريقة الأفغانية. هذا الدخول لا يقدم فرصاً أكبر بصورة تلقائية للتقدم والمشاركة العالمية إذا لم يترافق مع إرادة ذاتية وخصوصية تسعى إلى وضع التقدم في خدمة أهداف التنمية المحلية. إن حمل العولمة لمشروع هيمنة عالمي لا يبرر رفضها ولا البقاء خارجها. إذ لسنا في صدد الاختيار بين منظومات دولية مهيمنة ومنظمات تحرير شامل. إن هدفنا في التحرر عائد بالدرجة الأولى إلى قدرتنا على تحقيق استراتيجيات فعالة للاستفادة من التفاعل الدولي، والحد من آثاره السلبية. لذا علينا التخلي عن المواقف الدفاعية التقليدية لمصلحة مواقف تقوم على الثقة بالنفس، وتبني مبادرات إيجابية تهدف إلى تعديل النظام العام وتطوير التعاون الاجتماعي. وهذا يقتضي بدوره أن نعترف بتصور أنظمتنا الاجتماعية والثقافية، والانطلاق إلى احتلال مواقع العالمية نحو المشاركة الفعلية في الجهود الحضارية الإنسانية، ومواجهة الصراع المزدوج ضد السيطرة الخارجية، وضد الذات وضعفها في الوقت نفسه. * كاتب فلسطيني.