منذ أن دخلت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، كانت كلية البترول والمعادن آنئذ، أدركت أن أشياء كثيرة ستتغير مع هذا الجمع، كان تعداد المقبولين في الكلية من خريجي الثانوية لذلك العام حوالي 550 طالباً، من كل أنحاء المملكة، كان ذلك في العام 1974. يوم الخميس الماضي اجتمعنا في كنف جامعتنا الأم، في الظهران. حضرنا عصراً لمكانٍ كنا نمكث فيه كل أوقاتنا؛ في "الجبل" في النهار، وفي "السكن" مساءً. هذه المرة لم نمكث بل مررنا على أطلال الماضي، وتحول جمعٌ من الكهول إلى صبية يافعين؛ هنا سكنا، هنا لعبنا، هنا أكلنا، وهنا تشاجرنا! كانت لنا حياةٌ في تلك العنابر في "سعودي كنب" في الظهران. عندما استذكرنا الماضي وجدنا أننا لم نك نملك شيئا، لكننا وقتئذ لم نك ندرك أنه ينقصنا شيء. رغم أن إدارة الجامعة كانت "حديدية"، ليس ظلماً بل حزماً، فمثلاً عندما قدمنا أول مرة لاختبار القبول، وجدنا وجهاً صارما، واختبارات مطبوعة بطريقة مختلفة (خيارات متعددة وصح وخطأ)، وسيف الوقت مسلط على الرقاب بلا هوادة. أخذتنا الحافلة لبقايا سكن الطلاب، إلى العنابر التي قطناها، كان مجرد ملاحظتنا لرقم العنبر (الليّنّ) كافياً أن يخلق شغباً لاستذكار من كان يسكن منا هنا ومن كان لا يسكن، ثم وقفنا سوياً، كما لم نقف منذ سنين، لنلتقط صورة جماعية تذكارية، كانت جميلة لكنها كانت ناقصة، بغياب بعضنا. لم أتمالك إلا أن أرقب طلاباً يافعين يسكنون في عمارات حديثة متعددة الطبقات على الطرف المقابل للعنبرين المتبقيين من سكن الطلاب القديم، الذي حصلت عليه الجامعة وقتها من أرامكو، كانت تلك العنابر ذات دور واحد على شكل حرف "يو"، وكل عنبرين متقابلان تملأ الفراغ بينهما حديقة، تستخدم عادة للسمر وللعب كرة القدم. وفي العنبر غرف يشترك في كل غرفة اثنان من الطلاب، وغرفة للمعيد، وغرفة عامة، ودورتا مياه على الزاويتين. وقفز لذاكرتي أول تذوق "للسليق" في الغرفة العامة للعنبر، وقتها تساءلت: كيف تسكبون الرز بالحليب في تباسي؟! لكن من يومها وأنا من عشاق هذه الأكلة. وبعد أن ذهبت للشورى تعرفت على من قال لي "السليق" أنواع أفضلها "الطائفي" (نسبة لمدينة الطائف وليس للطائفية أجارنا الله وإياكم). طبعاً، طيلة مكوثي في الجامعة وحتى التخرج لم أتذوق "السليق" إلا بالدجاج، حتى كنت أظن أنه لا يصلح إلا به، ثم اكتشفت الخدعة الكبرى التي وقعت بها. عندما أخذتنا جولتنا القصيرة إلى مبنى الإدارة القديم، وإلى مبنى الفصول الدراسية للسنة التحضيرية، قفزت أمامي صور الأساتذة والطلاب والشغب، نظرت إلى مساحة خضراء تحيط بالمبنى هنا كنا نستذكر، و"نحش" في بعضنا البعض وفي الأساتذة، ونضع خططا للتفاوض معهم حول أوقات الاختبارات وأحياناً لإعادتها، وهنا كذلك كنا ننثر خيباتنا في تدني النتائج وقفزاتنا فرحاً بعلوها. ثم قررنا أن نجلس في فصلٍ من تلك الفصول، كما جلسنا منذ دهر، فعادت القهقهات والتعليقات وتلاشى وقار الشيب للحظات لتحل محله روح مرحة قدمت من بعيد. ثم قطعنا الأمتار القليلة حيث القاعة التي كانت رئيسية وتجرى فيها اختبارات القبول؛ أخذنا نتنافس في تذكر أحداث مضت بتفاصيلها، بعد أن كنا نتنافس في التحصيل من أجل مستقبل كان في ثنايا الغيب! أخذت أتأمل الصور التي التقطتها تواً، وأتأمل وجوه أشخاصها. أربعون عاماً عمر علاقتنا بهذا المكان، الذي نعود له بحبٍ ولهفةٍ وفاءً لما زرعه فينا ليس فقط علماً وتحصيلاً، بل كذلك لغرسه قدرات ومهارات حياتية للتواصل والتفاوض والتعايش والتعاون، وتشجيعنا لأخذ زمام المبادرة والتصريح بالرأي، فقد أفردت لنا "ساندوتش"، هناك نشرت فيها أول مقالاتي، وهناك قابلت عصفور رسام الكاريكاتير المشاغب، الذي كان يتحفنا كل أسبوع تقريباً ب"تمصيع" آذان. انتهت جولتنا القصيرة في جنبات الجامعة التي تمددت واتسعت وأنجزت الكثير، وبدأ الحفل، وسط ضجيجنا الذي ما لبث أن تلاشى، وأخذنا نستمع إلى آيات من الذكر الحكيم، لتتوالى الفقرات بعد ذلك. أقفلت عائداً إلى مهجعي سعيدا بأني أنتمي لجمعٍ من أبناء الوطن الغالي، شهد بدايات كثيرة وأحداثاً عظيمة وأفراحاً وأتراحاً، وأن جامعتنا مصنع رجال تستقبل كل عامٍ فوجاً وتخرج فوجاً، وتعاود استقبالهم لتتفحص رسوم السنين على محياهم وثراء التجربة في عقولهم.