نَشأتِ المدينة الأولى من التجمُّع البشريّ في المراحل التاريخيّة القديمة جدًّا. وهي ما تزال تعيش معنا وتؤثّر فينا إلى درجة بعيدة، أو لِنَقُلْ إنّها تؤثّر في معظمنا. إنّ الوجود البشريّ، منذ البداية، عبارة عن وجودٍ جماعيّ بالضرورة، وليس بالإرادة، بسبب الكثرة المُتكاثرة للوحوش والحيوانات، وخَطر القضاء على الجنس البشريّ، إن لم يكُن ثمّة تجمّعٌ وتآزُر. لكنّ هذا التجمُّع البشريّ الأوّلي كان تجمُّعًا متنقّلًا في بدايته، لا يثبت في مكان، فمكان عمله يتغيّر باستمرار، بحسب مقتضيات الصيد: فصول التكاثُر، نَوع الفرائس، نوعيّة الوحوش الضواري، والطيور الكواسر. ولم يُحقِّق التجمُّع البشري نوعًا من الاستقرار إلّا بعد رسوخ الثورة الزراعيّة، فكان الزّارعون حرّاسًا في الوقت نفسه، مخافة الصيّادين، الذين صاروا من ألدّ أعدائهم. تجمُّع الصيد، بحدّ ذاته، حتّى في المراحل الأولى من الثورة الزراعيّة، لم يؤدِّ إلى توطيد المدينة الأولى، لأنّه تجمُّع مؤقّت، أو موسميّ إن صحَّ التعبير، كما أنّ البيوت التي يسكنونها لم تكُن مصنوعة، بل كانت طبيعيّة، أو بسيطة متنقّلة، بينما بيوت الموتى دائمة ومستقرّة. هناك شيء ما غَيَّرَ التجمُّعَ العابر، ما أدّى إلى الاهتمام بالمدينة الأولى في التاريخ... إنّه الموت. ربّما مرَّ حينٌ من الدهر كان الحَيّ يحتفظ بالميّت في زاوية من زوايا سَكَنِه، ولكنْ في ما بعد أَدرك أنّ هذا لا يعود عليه بالنَّفع، فبنى له بيتًا خاصًّا، وأسكنه فيه، وبالتدريج جَعَلَ للبيتِ ارتفاعًا معيّنًا وبوّابةً ومَنفذًا للهواء. واختار مكانًا قريبًا من سَكَنِه ليزوره كلّما سنحت الفرصة ودَعَتِ المناسبة. هذه البقعة المُختارة، أو التي اختارتها التجربة، اتَّسعت وشكَّلت مدينة الموتى، سكّانها مستقرّون في منزلهم الأبديّ. لا يفرّون ولا ينتقلون، ولا مساكنهم تتحرّك، في حين أنّ الأحياء كانوا على سَفَرٍ دائم، ولم يستقرّوا إلّا عندما توطّدت الثورة الزراعيّة. والمدينة التي بُنيت للموتى كانت محصّنة ضدّ الوحوش والضواري، فلا خوف على سكّانها، لو تُركوا بلا حراسة. ولكن مع الأيّام تبيَّن أنّ المؤونة والعُدد والعتاد التي جُلبت مع الميِّت تختفي، أو تفسد، فجعلوا لهذه المدينة حارسًا يحميها من اللّصوص، إلى أن يرحلوا عن المكان إلى مكانٍ فيه تكون الفرائس أكثر ويكون الصيد أيسر، قَبل أن تتوطّد الزراعة. كان منزل الأموات مُجهَّزًا بالملابس والأسلحة والطعام. ولمّا تكاثرت المنازل تشكّلت المقبرة، أوّل مدينة في التاريخ، وظلّت تُزوَّد ببعض الأشياء، كالملابس وجرار الماء، مدّة طويلة في التاريخ. وتعدَّدت أسماء منزل الميّت: ضريح، مَدفن، مَرقد، قَبر، المأوى الأخير أو الملاذ الأخير... إلى آخر هذه التسميات المُتعدّدة التي اختارتها عقائد الناس في تلك الأيّام، أو مع توالي الأيّام وتنوُّع الأفكار والتخيّلات. حرْق الأجساد من الملحوظ أنّنا استثنينا تلك القبائل أو الشعوب التي لم تُشيِّد مدينة أولى لها، بل عمدتْ إلى المَحارق، لا البيوت، وفقًا لعقيدةٍ روحانيّة عميقة ترى في الجسد عِبئًا على الروح، وقذارةً في الحياة الدنيا، وقد تَدفع العقيدةُ بعضَهم إلى التخلُّص من جسده نشدانًا لعالَم الروح الأسمى، فيكون بذلك قد حرَّرَ الروح من القَيْد الكبير الذي تسكن فيه. وقد أصابت هذه العقيدة بعض الرواج لدى فلاسفة اليونان أمثال فيثاغورس وسقراط وأفلاطون، وربّما كانت متأثّرة بكثيرٍ من مظاهر الصوفيّة الشرقيّة. ولا ندري إن كانت هذه الشعوب قد مَرّت بتجربةِ بناء المدينة الأولى، ثمَّ نَقَلَتْها العقيدةُ الروحانيّة إلى حرْق الأجساد تحريرًا للروح، أم أنّها منذ التجمّعات الأولى تملَّكتها العقيدةُ الروحانيّة. كما نَستثني الشعوب التي لا تؤمن بغير هذه الحياة الدنيا، فلا تأبه بمصير الجسد بعد موته، فعزفتْ عن تشييد المدينة الأولى، فكانت سطوح القبور في مستوى سطح الأرض. والأغلب أن تتبَع هذه الشعوب تقاليد الأجداد المرموقين الذين تأكّد فيهم الصلاح والخير، من غير أن يكون لأجسادهم مدينة ظاهرة. الزيارات والمزارات كانت الزيارات تتمّ بين الموتى والأحياء، فالموتى يزورون في الحُلم، والأحياء يزورون بالعِلم. وربّما تكون المُبادرة الأولى من الأموات إلى الأحياء. أمّا إذا سبقت زيارة الأحياء زيارة الأموات، فلأنّهم نَسوا أداةً من أدوات الصيد، أو تفقّدوا الطعام، حتّى إذا نَفذ جاؤوا بغيره. لكنّ الضريح لم يتحوَّل إلى مزارٍ إلّا بَعد مُبادرة الموتى بالزيارة الأولى، فعمدوا إلى تشييد المزارات الكبرى، حتّى أنّ الآثار أَبقت لنا من جملة العجائب السبع مزارَيْن مشهورَيْن: هَرَم الجيزة وضريح موسولوس. وإذا أخذنا بالنظريّة اليوهيميريّة، رأينا في مَعبد زيوس ومَعبد دلفي ومَعبد أرتيميس وسواها من المعابد أضرحةً لأناس عظماء لهم بطولات رَفعتْهم إلى درجة الألوهيّة، تمامًا مثلما تَرفع القداسةُ عند المسيحيّين وسواهم كلَّ مَن ضحّى من أجل مُعتقده إلى درجة التبجيل والتقديس. زيارة أطياف الموتى في الحُلم أورثَتنا عالَمًا جديدًا يُناقِض العالَم الذي نعيش فيه كلّ المُناقَضة، فعالَمُهم لا نَقْصَ فيه، ولا فساد، ولا حروب، ولا حقْد ولا ضغينة، على نقيض عالَمِنا. وصارَ كلّ شعبٍ يَرسم تصوُّرًا لهذا العالَم بحسب العقيدة التي تشكّلت بمرور زمنٍ ليس بالقصير. بعضهم جَعَلَ هذا العالَم في صورةٍ زاهية، وبعضهم قسَّمه إلى عالَمَيْن: عالَم الأخيار وعالَم الأشرار، وبعضهم جَعَلَهُ ثلاثة عوالِم: عالَم السعادة وعالَم الشقاء، وبينهما عالَم ثالث هو عالَم التطهير، من أمثال ما تخيّله أفلاطون من بحيرات النار، أو جبل المطهر كما تصوّره دانتي، في انتظار عودةٍ ثانية. وعالَم الأرواح هذا لا يحتاج إلى مسّاحين وخبراء ورسّامين وخرائط تُحدِّد الجغرافيا ومواقع السكن، ولا يحتاج إلى خُبراء زراعة أو صناعة، ولا إلى عُلماء فيزياء وكيمياء، ولا إلى أطبّاء توليد أو جراحة، ولا وصفات طبيّة، ولا مكان لأساتذة اللّغات، ولا لمُصلِّحي الحافلات والسيّارات... بل يحتاج إلى مخيّلةٍ جامحة، وإيمانٍ عميق، المخيّلة ترسمه، والإيمان ينشره. صفات العالَم الدنيوي نقيض العالَم الآخر، فهنا الفسق والفجور وهناك الطهارة والقداسة، وهنا التعب والشقاء، وهناك الراحة والهناء، وهنا دار فناء، وهناك دار بقاء... إنّه عالَمُ خلودٍ، تهفو إليه كلّ نَفْسٍ مؤمنة، ويتمنّاه كلُّ مُعذّبي الأرض. لكن لا بدّ من أن نشير إلى أنّ عالَم الأرواح يختلف باختلاف العقائد والمذاهب والشيَع والفلسفات. ومن المُحال أن تَركن إلى خارطة واحدة محدَّدة لهذا العالَم، فحتّى اليوم لم نَجد أيّ اتّفاق على خارطة يَجتمع عليها دينان، أو طائفتان... ولا على سكّان ذلك العالَم العلوي. عليك أن تُعدِّد أديان أفريقيا وآسيا وأستراليا وفِرَق الدّيانات الإبراهيميّة لتَعرف عدد الخرائط... والشيء الوحيد الذي يَجمع بين هذه التصوُّرات أنّها فاقدة للتاريخ والجغرافيا، تختلف الواحدة عن الأخرى بتضاريسها وسهولها وأنهارها... من غير أن تتحدّد البقعة الجغرافيّة، أو أنْ يُعرف تاريخ بدايتها، أو زمن نهايتها. مفْصل خطير في تاريخ البشريّة، فقد خَرج الإيمان من مدينة الموتى ليعيش مع المعرفة التي يتمتّع بها الأحياء، في صراعٍ أبديّ. وللأدب مسؤوليّة كبرى في ما حدث، وربّما كانت مخيّلته كافية لرسْم ذلك العالَم بجدّية حينًا، وبسخرية حينًا آخر، من جدّية أفلاطون إلى سخرية دانتي. التراث الآسر من مدينة الموتى ورثتِ البشريّةُ أعظم تراثٍ أدبيّ وفنّيّ من كلّ الأنواع. فمنها انطلقتِ الفنون الجماعيّة، التي كانت أساس ما يُسمّى «الجوقة». وهي ركن الفِرق التمثيليّة التي ظهرت في ما بعد. ومن أبرز الموروثات فنّ الرثاء، بأدواته الشعريّة والفنيّة والموسيقيّة. وما الجوقات التي نسمّيها اليوم «الندّابات» سوى استمرار لهذا الموروث المُثير والرائع، الذي بجماليّته أَتلف المواجهةَ الفكريّة للواقع. ما زال ميراث الموتى معنا، من مواكب الحزن الأوزيريسيّة إلى مواكب تمّوز الحزينة، إلى موت ديونيسيوس وانبعاثه، إلى الموت والقيامة في الأديان الحاليّة... بالإضافة إلى الأناشيد الجماعيّة التي تُنشَد في كثيرٍ من الأعمال الذي تتطلّب تعاونًا. يبدو أنّ ميراث مدينة الموتى مُمسِك بأعناقنا منذ البداية. ولا ننسى أنّ أدب الابتهالات التي كانت تُرفع إلى الآلهة طَلَبًا للرحمة وغفران خطايا سكّان القبور، ومحْو ذنوبهم، والتجاوُز عن سيّئاتهم، جاءت كلّها من مدينة الموتى. كما أنّ أناشيد القيامة، قيامة أوزيريس وتمّوز وديويسيوس (وتكون في الربيع عادة) وأليعازر... هي أيضًا من مدينة الموتى. ولو اطَّلعنا على ما يُسمّى الأناشيد الهومريّة (وقد يكون معظمها لغَير هوميروس) لتبيَّن أنّ هذا التراث يَزرع فينا إيمانًا بما لم نَره، وثقة بما لم نجرّبه. وفنون الرقص لم تكُن بعيدة عن مدينة الموتى، فالرقصات الهادئة كانت تُواكِب الجنازات، مع الموسيقى الحزينة، بينما في أعياد الربيع، أعياد قيامة الآلهة، تكون الموسيقى الصاخبة والرقص المجنون. وكان الباهرون في العزف والغناء يُكرَّمون، ربّما حتّى درجة العبادة. وما أورفيوس نفسه سوى عازف في جوقة أبيه الإله أبّولو، وأمّه كاليوبي، ربّة الفنّ الملحمي. وحتّى القيثارة أهداها له أبّولو، إله الفنون. إنّ أوّل تنظيم المُدن ظَهر في مدينة الموتى، فقد كان الأحياء يرتحلون من مكانٍ إلى آخر، بحسب مقتضيات الضرورة والهجرة، بينما الموتى مستقرّون في بيوتهم. كانوا يعودونهم، حتّى ولو كانوا في مواقع نائية. وكانوا يتحمّلون المشاقّ في كلّ زيارة واحتفال بحسب المناسبات المُتَّفق عليها، ويزداد اهتمامهم بهذه المدينة، فتَظهر الممرّات بين قَبرٍ وقَبر، وتُزرع الزهور في هذه البقعة أو تلك، وتوضَع أصص الزهور التي لا تَذبل على جوانب القَبر، أو على نوافذ التهوية... ولمّا مالَ الأحياء إلى الاستقرار، حين أجبرتهم الزراعة على ذلك، خطّطوا مدينةَ الأحياء على نمطِ مدينة الموتى، وبذلك استقرّتْ مُدن الأحياء مثل استقرار مُدن الموتى، وكلّما كبرت بيوت الموتى وزُخرِفت، رافقها شموخُ القصور وفنون تزيينها... فصارَ لميراث مدينة الأموات سلطة، حتّى على ملوك الأحياء وكبارهم. *كاتب وناقد من سوريا *ينشرَ بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونيّة الصادرة عن مؤسّسة الفكر العربيّ