تقودني خواطري في هذا المجال إلى الانتقال لنموذج آخر مختلف، وهو نموذج من حياتنا الثقافية الراهنة، فقد قرأت منذ أسابيع مقالا في مجلة «الحوادث» يفيض بالافتراءات والأكاذيب ضد الفنان العربي الكبير الطيب صالح، وفي هذا المقال تجريح للطيب صالح لا يقبله عقل أو ضمير. وقد سألت نفسي وأنا أقرأ هذا المقال: لماذا يحاولون تشويه الطيب صالح، وهو الفنان الذي أضاف إلى أدبنا العربي المعاصر إضافة لا تعوض؟ لماذا يحاولون أن يطفئوا هذا النجم الذي أضاء في سمائنا الثقافية وهي قليلة النجوم والأضواء؟ وقد حمدت الله أن الطيب صالح، إلى جانب عبقريته الفنية، ليس إنسانا سهل الكسر، فقد منحته الطبيعة نفسا راضية قادرة على الاحتمال، ولولا ذلك لألقى هذا الفنان بالقلم الموهوب في وجوهنا وانقطع عن مواصلة طريقه الفني وغضب غضبة أخيرة واعتكف واستراح. إن الحقيقة الواضحة أمامي هي أن الاستعمار الثقافي الذي تعرض له الوطن العربي في العصر الحديث لا يكتفي باضطهاد المثقفين الوطنيين أو محاولة تحويلهم من طريقهم الصحيح، كقوة حضارية مرتبطةً بمصير الأمة كلها، ولكن هذا الاستعمار يعمل بأسلوب آخر هو هذا التشويه الذي أتحدث عنه، وهذا التشويه يهدف دائما إلى إلقاء ألوان من الشك حول شخصيات هؤلاء المثقفين وحول مواقفهم المختلفة، وهو تشويه يهدف أيضا إلى تجميد هؤلاء المثقفين وتجميد قدرتهم على الإبداع والإنتاج والعمل من أجل وطنهم. ويهدف هذا التشويه في نهاية الأمر إلى نزع ثقة المثقفين بأنفسهم ونزع ثقة الناس فيهم. وتشويه المثقفين الوطنيين عملية واسعة النطاق تجرى كل يوم، ربما دون أن نشعر بها. أذكر في بداية الخمسينات، وكان ذلك قبل ثورة يوليو 1952، أنني التقيت بفتاة عربية كانت تعمل في إحدى الصحف الوطنية التي كانت مشهورة بمواقفها الشعبية والديمقراطية الجريئة، وسألت من هذه الفتاة فقيل لي إنها ألمع فتاة في الجيل الثقافي الجديد آنذاك، وأنها تخرجت حديثا في الجامعة، وهي فتاة صلبة شجاعة، كما أنها كاتبة موهوبة سوف تقدم الكثير للحياة الثقافية في مصر والوطن العربي كله، وقد استمعت إلى هذه الفتاة وهي تتحدث وتناقش، فرأيت فيها حيوية متدفقة وجمالا مشرقا ونموذجا جديدا للمرأة العربية. ومضت الأيام وبدأت هذه الفتاة الجديدة تلمع فعلا، وأخذت الأصابع تشير إليها كنموذج جديد حقيقي للمرأة العربية، في تفكيرها. وكتابتها وحيويتها وجرأتها ومواقفها الواضحة العميقة، وكان الجميع ينتظرون أن تلعب هذه الفتاة دورا كبيرا رائدا في حركة الثقافة العربية الجديدة، وفي المجتمع العربي الجديد معا. وفجأة حدث تحول غريب في حياتها، فقد أخذ أحد الأساتذة الجامعيين المعروفين بمواقفهم الحادة ضد التجديد الفكري والتقدم الاجتماعي يتقرب من هذه الفتاة. وبدأ الناس يشاهدون شيئا عجيبا وفاجأ الجميع أن الفتاة الثائرة تزوجت من الأستاذ المعارض لأي حركة إلى الأمام في الفكر والأدب والحياة. وبمرور الأيام تجمدت الفتاة نفسها وتم تصفية ما فيها من فكر حر ثائر، وانحصر نشاطها في نطاق محدود من العمل المهني داخل الجامعة، حيث أصبحت مدرسة محبوبة ومحترمة، ولكن تأثيرها ضاق واختنق، أما أظافرها الفكرية الحادة فقد تم تقليمها تماما. وبدت الفتاة متوازنة مع ذلك، كانت سعادتها الشخصية واضحة، وكانت هذه السعادة تمنحها التعويض عن دورها الهمام وتأثيرها القيادي في الحياة الثقافية كفتاة موهوبة ومجددة وثائرة. 1979* * ناقد مصري «1934 - 2008»